حرب الإعلام

09:55 2022/03/05

صحيح أن الضحية الأولى في الحرب، أي حرب، هي الحقيقة. إذ يصعب أن يستخلص المرء ما يجري بدقة في ظل رواية طرفي الصراع وأيضا "رتوش" الأطراف الأخرى المعنية صاحبة المصلحة أو الغرض.
 
كما أنه إذا أردت أن تبدو "إنسانيا" وتدعي أنك "محايد" فلتتجاهل الأسباب والدوافع وراء الحرب وتركز على الحرب ذاتها لأن ذلك يخدم غرضا براجماتيا لك. فالأكيد أن لا أحد يؤيد الحرب بالمطلق، لما تسببه من دمار وإزهاق للأرواح. لكن حين تفكر أن وراء الحرب مقدمات كثيرة تتراوح ما بين مقاومة وصد عدوان غير مبرر، أي رد فعل، إلى محاولة استرداد حق أو إزالة خطر محدق بك لن تصبح الحرب "شيطانية" بهذا القدر الذي يصور به التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
 
ليس القصد هنا تبرير فعل يخالف الأعراف والقوانين، وإنما لأن تلك المقدمة مهمة لفهم الجانب الأخطر في هذه الحرب والذي أتصور أن تأثيراته لن تزول بنهايتها – أيا كانت النهاية. ذلك الجانب هو حرب الإعلام. فرغم أننا ظللنا على مدى عقدين نسمع مواعظ بأن الإنترنت ومواقع التواصل فتحت بابا للحرية يتسع للجميع، وأن مواقع التواصل أصبحت النافذة الأهم لمعرفة "الحقيقة" التي يريد الإعلام التقليدي – أحيانا بضغط من حكومات الدول التي ينطلق منها – طمسها أو اجتزاءها فإن هذه الحرب أثبتت أن كل ذلك محض هراء.
 
نعم، ليس التلفيق والتزوير غريبا عن الانترنت ومواقع التوصل من بداية ظهورها لكنه في حرب أوكرانيا بلغ حدا لا يمكن تصوره. مثال واحد فقط أن ينشر رئيس أوكرانيا تغريدة أن موقعا تذكاريا لمحرقة يهودية في العصمة تم قصفه وتدميره، ليذهب مراسل صحيفة اسرائيلية إلى المكان ويرسل تقريرا لصحيفته بأن المكان لم يصبه أي شيء وأنه كما هو تماما سليما جيدا!!
 
طبعا هناك استخدام صور وفيديوهات من أماكن أخرى في العالم وبعضها قديم جدا، وكل ما نعرفه الآن عن تطور برامج تركيب الصور والفيديو والتزوير بغرض التضليل. وهو ما لا يقتصر على هذه الحرب، وإن كان يستخدم فيها بكثافة. وأثبتت الأيام الأخيرة أن ما كانت تشتكي منها دول "الديموقراطيات" الغربية من تأثير الصين وغيرها في توجهات الرأي العام فيها في انتخابات وغيره مستخدمة الانترنت ومواقع التواصل اتضح أنه أيضا أداة مهمة لحملات أميركا وأوروبا لتحشد الرأي العام ولو بالتلفيق.
 
أما الطرف الآخر في الصراع، فنحن معتادون على أنه – بالوصف الغربي – شمولي ولا يسمح كثيرا بحرية الرأي. وبالتالي لم نشهد تغييرا كبيرا في توجهه الإعلامي، سواء عبر الصحافة التقليدية أو باستغلال مواقع التواصل. بل إنه ربما بدا في بعض الأحيان أقل "تزييفا" من منافذ "العالم الحر"!!
 
حرب الإعلام عبر الإنترنت ومواقع التواصل إذا، كما في غيرها من الحروب والصراعات والحملات المختلفة في هذا القرن في أغلبها تضليل وحشد للرأي العام في إطار تعزيز المواقف وتبريرها.
 
لا عجب في ذلك إذا. إنما الأهم والأخطر هو الإعلام التقليدي، الذي فجأة كشف عن أنه ينافس مواقع التواصل في التزييف والتضليل وشن حملات تلفيقية لأغراض دعائية محضة لا تمت للصحافة بصلة بل وتنال مما تبقى من مصداقيتها. ربما يتصور البعض أن ذلك مرده إلى مواقف الحكومات، والتي كشف بعضها ليس عن "الكيل بمكيالين" كما يقال وإنما عن قمع رأي لا يمكن بعده أن يبلع أحد أن تحاضر أميركا وبريطانيا بورما وزيمبابوي حول الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان وما إلى ذلك من شعارات. لكن لا يمكن اعفاء الصحافة والإعلام، ومن يعملون فيه، من المسؤولية عن هذا التدهور الرهيب الذي وصل إلى حد "تجميل" الزيف وتبرير العنصرية والتحامل بتطرف لا يقل عن دعاة التمييز العرقي والإرهاب الفكري.
 
مفهوم أنه في حالة الحرب، وتعرض الأمن القومي للخطر، يتم التغاضي عن كثير من المعايير المهنية حتى لا تضر الصحافة بالصالح العام. لكن تاريخيا، هناك حدود لكل ذلك. أما ما وصلت إليه الصحافة الآن، خاصة في الغرب الحر الديمقراطي فيقترب من الكارثة. لقد تجاوز الأمر ما كان يشكو غلاة المهنيين منه من الفصل بين "الإعلان" و"الإعلام"، أو الخبر والرأي وأصبحت منافذ كانت محترمة مهنيا كأنها أبواق دعاية لمواقف سياسية أكثر منها مصدرا للمعلومة الموضوعية والتحليل الرصين.
 
أما الدول والحكومات، فحدث ولا حرج. وتكاد تقترب دول كانت تقود الإعلام العالمي من وضع الصحافة في كوريا الشمالية. خذ مثلا بريطانيا، التي كانت تحاضر العالم النامي مثل بلادنا على حجب بعض المنافذ – والتي أحيانا تكون أدوات تخريب فعلا وليست رأيا حرا كما تدعي – واضطرار الناس لاستخدام برامج للالتفاف على الحجب، تحجب الآن كل منافذ الإعلام الروسية أو من أي بلد لا يتبنى الرواية الغربية عن الحرب الأوكرانية. هذا في الوقت الذي ما زالت فيه "صوت أميركا" تبث في روسيا ولم تحجبها موسكو.
 
وأصبح الناس في لندن يدخلون إلى الإنترنت عبر مصر أو الإمارات مثلا ليتمكنوا من معرفة الجانب الآخر من القصة، كي لا "يبلعوا" ما يدسه الإعلام الغربي من أن الجسور التي فجرها الأوكرانيون كي يعرقلوا تقدم القوات الروسية ليست تدميرا روسيا شاملا لأوكرانيا وبنيتها التحتية – بغض النظر عن الحقيقة هنا، لأنها في الأغلب ضائعة بين الروايتين.
 
كل ذلك والروس والأوكرانيين قوقاز وأوربيين بقدر، أي من جنس وعرق تلك الديموقراطيات الحرة المزعومة. فكيف إذا سيصدق أحد في العالم النامي أو أجناس البشر الأخرى ذلك الإعلام الذي يدعي الموضوعية حين يتحدث عن قضايا في آسيا أو إفريقيا أو أميركا اللاتينية؟
 
 
 
 
* سكاي نيوز عربية