مع والدي في رحلة مرضه الطويلة

06:38 2021/03/21

في الذكرى ال-21 لرحيله... 
مع والدي في رحلة مرضه الطويلة...   
من كتاب "أنا وأبي" (مٌترجم من النص الانجليزي).  
 
لقد مات...
كان ذلك في العشرين من أول "مارس" في الألفية الجديدة، بعد الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، عندما نزل ملاكان من السماء ودخلا بهدوء إلى غرفة العناية المركزة في الطابق الرابع من مستشفى ميدلسكس الجامعي بلندن. لم يكن لهما أجنحة، أو أي شيء من هذا القبيل، ولا ما يجعلهما مميزين بأي شكلٍ من الأشكال، ربما فقط تلك النسمات اللطيفة التي هبّت مع قدومهما والتي شعرَ بها بعض من كان في المستشفى.
 
وقف الملاكان بهدوء بجوار السرير. رفع أحدهما يد المريض اليسرى برفقٍ سماوي، حيث كان أنبوبٌ طبيٌ صغير قد تم غرسه منذ أربعة أيام، بينما ظلَّ الآخر مبتسماً بإعجاب وهو يتفحص الأجهزة الطبية المختلفة المعلقة على السرير. وقبل أن تدخل الممرضة "بات أندرسون" مسرعة إلى الغرفة، وتقوم بفحص أجهزة دعم الحياة التي بدأت بالرنين المقلق والمحتوم، كان الملاكان قد أخذاه بهدوء دون أن يوقظاه، وكان أحدهما، ذلك الذي كان يتفحص الأجهزة الطبية مبتسماً، قد قام بربط خيوط حذاء ابنه الأصغر "مطيع" الذي كان لحظتها واقفاً يتثاءب بمللٍ مُقلِق أمام حوض الأسماك، الذي تم وضعه بشكل عشوائي في الممر المجاور لغرفة العناية المركزة. كان "مطيع" هو مَن هرعَ إلى غرفة الانتظار المجاورة، وأخبر أمه عن الملاكين. ربما كانت هذه هي الطريقة التي وجدها مناسبة آنذاك لأخبار أمه بما حدث دون أن يضطر إلى نطق أصعب الكلمات على الإطلاق: "لقد مات". ربما كان قد رأى الملاكين بالفعل وشعر بحركة خيوط حذائه وهي تُربط... وبغض النظر عما إذا كانت أمه قد صدقت قصته عن الملاكين هذه أم لا إلا أن وجهها اِسودّ، وهرعتْ مع ابنها في جزع إلى غرفة العناية المركزة حيث كان ينام زوجها منذ أربعة أيام، وقبل أن تنفجر بالبكاء كانت قد أمرَت "مطيع" بهدوء أن يذهب ويستدعي شقيقه الأكبر الذي كان قد نزل قبل ثلاث ساعات، إلى كافتيريا المستشفى في الطابق السفلي، ليحضر لها شيئاً تأكله، ولم يعد حتى الآن. 
كان هذا الشقيق الأكبر هو أنا... ولم تكن قد مرت سوى ربع ساعة فقط منذ غادر أمه في غرفة الانتظار ليرى أخاه الأصغر وهو يبحث عنه في الكافتيريا... أخاه الذي لم يكن بحاجة، بذلك الوجه الحزين المنهزم، أن ينطق بأصعب الكلمات على الإطلاق: "لقد مات". 
 
* * *
وفقاً لموسوعة ويكيبيديا، كان زيد مطيع دماج (1943-2000) في السابعة والخمسين من عمره عندما وافته المنية في مستشفى ميدلسكس الجامعي العريق بلندن. ما لم تذكره ويكيبيديا أنه توفي بعد 15 عاماً من صراع بطولي مع السرطان، وأنه بعد 5 سنوات من وفاته تم إغلاق ذلك المستشفى وهدمه ليتحول بعد سنوات إلى مجمع سكني وتجاري هائل يُعرف الآن باسم (Fitzroy Place). 
ما زلتُ أتذكر ذلك اليوم المشمس من خريف عام 2008 عندما واتتني الشجاعة أخيراً وقررتُ الذهاب لزيارة المستشفى، ورؤية الكافتيريا، والممرات، والطابق الرابع، وغرفة الانتظار، وحوض السمك، وربما الممرضة "بات أندرسون" التي ربما قد أجدها هناك أيضاً. كنتُ حينها قادماً من اليمن (البلد الذي ولدنا أنا وأبي فيه) في زيارة قصيرة للندن لحضور مؤتمر علمي. بعد أن تسكعتُ كثيراً في الشوارع القريبة من المستشفى قررتُ أن أكسر الحاجز النفسي وأن أذهب إلى المستشفى؛ لكن ولدهشتي الكبيرة لم أجده! وبعد أن سألت بعض أصحاب المحال التجارية المجاورة عرفت أن مبنى المستشفى قد تم هدمه، وأنهم سيبنون مكانه مجمعاً سكنياً وتجارياً ضخماً. هل كان هذا علامةً من أي نوع؟ هل كان مُقَدَّراً ألا أرى المستشفى مرة أخرى، وألا يتسنى لي استرداد ذكرياتي الحزينة التي تركتها هناك؟! 
 
بداية الرحلة
أصيب والدي بسرطان الدم وهو في الواحدة والأربعين من العمر؛ لكن كان عليه أن ينتظر عاماً كاملاً ليتم تشخيص مرضه؛ عاماً ممتلئاً بالأحداث والآلام والرحلات المكوكية بين الأطباء والمستشفيات في اليمن وألمانيا وبريطانيا، فقد خلالها، إلى جانب نصف وزنه، حاسة السمع والبصر مؤقتاً. 
 
بدأت الحكاية منذ أن عاد مريضاً بعد زيارة عمل إلى "غانا" ضمن وفد ديبلوماسي، فقد كان يعمل حينها ديبلوماسياً في وزارة الخارجية. كانت الحمى قد أصابته هناك، ولأكثر من ثلاثة أسابيع لم يستطع الأطباء في اليمن أن يعرفوا سبباً لها، فتم ترتيب سفره إلى ألمانيا. كان ذلك في شتاء 1984، لتبدأ رحلة علاج لم يكن يعرف أنها ستطول، وأنه لن يعود منها إلى أسرته إلا بعد سنة ونصف، بل أنه لم يكن خلالها -حسب ما جاء في مذكراته الشخصية- يأمل بعودته حياً على الإطلاق، ففي ألمانيا كان الأطباء قد فشلوا في معرفة سبب الحمى، وتطور مرضه الغريب وتدهورت صحته كثيراً، فتم نقله إلى مستشفى الحميات الاستوائية في لندن، وهناك تدهورت حالته أكثر، ولأسابيع فقد حاسة السمع والنظر، وبعد أشهر تم تشخيص مرضه بسرطان الدم "اللوكيميا"، وتم اخضاعه للعلاج الكيماوي. كان هذا على يد طبيب شاب يدعي روبرت سوهامي. وما أن بدأ
 
 والدي يسترد القليل الكافي من عافيته حتى أصرَّ على أطبائه ومرافقيه أن يعود إلى اليمن ليكمل هناك باقي الجرعات العلاجية. "كانت أمنيتي أن أتعافى بين أهلي أو حتى أن أموت بينهم"، هذا ما دونه في بعض مسودات مشروع مذكراته عن رحلة مرضه الطويلة، وهو المشروع الذي لم يكمله للأسف.
ظلَّ أسم "سوهامي" في ذاكرتي لأعوام كثيرة، ليس فقط لأن والدي ظل يتحدث بامتنان عن هذا "الطبيب الشاب" طوال حياته، بل لأن هذا الاسم أيضاً سيظهر في الإهداء لمجموعته القصصية "أحزان البنت مياسة" كالآتي: "إلى الدكتور سوهامي... المستشفى الجامعي في لندن... الذي انتشلني من فك المرض المفترس". لا أعرف حقاً لماذا، من بين مئات العبارات والجمل التي كتبها والدي واستمتعت بها، ظلت هذه العبارة، على بساطتها، تحومُ في رأسي وتذهلني لسنوات عديدة؟ ربما كان هذا بسبب صدقها المطلق، أو ربما لأنها ظلت تذكرني دائماً بذلك اليوم الذي، ولدهشتي الصادمة وحزني غير المتوقع، لم أستطع فيه التعرف على والدي ونحن نستقبله في مطار صنعاء عندما عاد فوق كرسي متحرك مدفوعاً بأيدي أحد أبناء عمومته.   
 
* * *
كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، منتظراً بقلق في صالة وصول المسافرين بمطار صنعاء، محاطاً بأخواتي الخمسة وأخي مطيع، وجمع غفير من أعمامي وأبنائهم وأقاربي وأصدقاء والدي الذين جاءوا جميعاً يستقبلونه بعد رحلة العلاج الطويلة تلك... لم يكن أحد قد أخبرنا (نحن أبنائه) بتفاصيل مرضه وأنه أصيب بالسرطان، فاسم هذا المرض كان له وقعٌ مأساويٌ في تلك الأيام. والحق أننا لم نكن نعرف  الشيء الكثير خاصة أن أمي كانت قد استطاعت إخفاء الأمر علينا ببراعة؛ كل ما كنا نعرفه أن والدي كان يتعالج في الخارج، وأنه عاد، وهو بخير الآن، وأن رجوعه هذا كان حدثاً كبيراً في المحيط الذي نعيش فيه...
 
(يتبع...)