عبدالسلام القيسي من المنفذ الشمالي (التَعِزِّي): الطريق إلى بلادي.. كيف تحوّلت عشر دقائق إلى عشر ساعات؟

  • كتب / عبدالسلام القيسي
  • 09:38 2022/05/31

هنا المنفذ الشمالي لمدينة تعز، الطريق إلى مخلافي تعز وشرعب والعدين وإلى كل جبل وقلة، هنا ربت الأشجار بعد انقطاع الحياة، وهنا سالت دماء الأبرياء
 
أنا عبدالسلام القيسي، كنت طفلاً -بعمر كف- أخرج وأدخل مدينة تعز من هذه الطريق في أسفل المركزي، بعد عصيفرة، وكانت ضاجة بالحياة والباعة والناس والسيارات والخروج إلى الريف الشمالي والدخول منه، ولا تكاد تتوقف الحياة، بل لم تتوقف طيلة المدينة، بقيت الحياة ما بقيت الأرض، مذ كانت القدمان هما وسيلة المرور، ثم أصبحت الراحلة، ثم الموديل العربة، ثم موديلات السيارات القديمة والحديثة وهذه الطريق مشرعة للسالكين، مليئة بالحياة والأحلام والمدينة والريف، وتصل بين كل شيء، هنا توحدت الجبال والشوارع، وتموسقت بهذه الطريق اللكنات، وبدأت ولم تنته إلا بوجود الكهنوت الحياة، هنا يظهر المد الواصل بين قلبي وبلادي، والمكان المنقطع بيني وبيني. 
 
هنا المنفذ الشمالي لمدينة تعز، الطريق إلى مخلافي تعز وشرعب والعدين وإلى كل جبل وقلة، هنا ربت الأشجار بعد انقطاع الحياة، وهنا سالت دماء الأبرياء، بكل طلقة قناصة تهشم رأساً من رؤوس المارة، طفل، وعجوز، وكهل وشاب وطالب وحتى الحيوانات، كل شيء انتهى هنا، فهذا الحاجز بين الأبناء والأمهات، بين الأخ وأخيه، بين الشيء وأصله. 
 
تشكل الحصار بطريقة الشجيرات، يفشل الإنسان التفكير بأن هذا المكان هو المؤدي إلى الهشمة والحصين وبني عون والشرقي وإلى نخلة، لن يصدق أحد، ولكنها هذه هي شريعة الكهف، شريعته قطع كل شيء وقتل كل شيء، من هنا كنت أعود لقريتي. 
 
هذه هي الطريق إلى بلادي، قريبة بمسافة نظرة وبعيدة بالحزام الناري الذي يطوق ريف ومدينة تعز، حصار الحوثي لمدينتي تعز، فهل يا ترى سنتجاوز الحاجز؟
 
كنت طفلاً، كما قلت، ولكنني كبرت وعجزت عن المرور كما أيام زمان من هنا إلى البيت وأمي، لماذا كبرت يالله؟ ليتني بقيت ذلك الطفل.. وأعيش حصار الحوثي للمدينة.
 
جبل حبشي.. والموت الشاهق.. سفري الطويل والأول عبر طرقات الحصار
 
عندما غادرت بلادي مخلاف التعزية أول مرة إلى مدينة تعز عبر الطريق الوعر في جبل حبشي كنت أراني أسقط، ونحن نصعد الجبل وتتصاغر الأماكن التي مررنا منها ولا أرى عمق الأرض وأستقل صالون موديل الثمانينات، كنت أشعر بالموت!
 
ماذا لو سقطنا؟ هذا هو السؤال الذي خطر ببالي طيلة الرحلة الممتدة من الصباح إلى الظهيرة، قلت لهم: إذا حدث وسقطنا إياكم والبحث عني، ربما سأصل إلى الحديدة..
 
كانت رحلة تعيسة، قبل خروجنا من المناطق المحتلة كنت خائفاً، أوقفتنا عجوز فوق منتصف العمر، وهناك أتتني الفرصة، أركبت العجوز بجانبي ودفعت عليها الحساب كي أكون ولدها في الطريق، وفعلاً حدث ذلك، النساء تذكرة مرورنا السليم من وإلى تعز.
 
في إحدى نقاط الكهنوت، أخذ المليشياوي هويات الجميع، وهويتي أيضاً، ذهب كي يطابق، وتم الأمر، عاد المليشاوي وأعطى الهويات لأصحابها، وهنا أحسست بالفجيعة وتحسست نفسي، كان يجب أن أحمل ولو قنبلة، قنبلة واحدة، أقوم بتفجير العربة المليشاوية التي ستقلني إلى الصالح أقمن وأفضل من التعرض لسجن وكرابيج الكهنوت، في معتقلاتهم، سرت بي رعدة شديدة، فأنا أخاف، أخاف الأماكن المظلمة وأفقد تنفسي من مشهد في فيلم سينمائي.
 
حسناً، أعطى الجميع هوياتهم، وقبض على هويتي بيده، وقال: من منكم عبدالسلام عبد الباسط عبدالجليل سعيد، قالها بثقة، أحسست بالقيود تطوقني، قلت له بصوت متهدج: أنا!
 
قلتها كمن يشاهد مصيره عن قرب، قلتها والخوف يملأ قلبي، أنا أعترف، خفت كثيراً، أكثر من كل شيء، فلن يخيفني القتل أو الموت، فقط أخاف السجن، هو كل خشيتي، لكن رد المليشاوي: اسمك مليح اشتبيعوه..!
 
اللعنة، اسمي الكبير يهزأ بي منذ طفولتي، العبدلي الثالث، عبده بن عبده بن عبده، أحمل ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى، ليتني احتفظت باسمي، كان اسمي موسى أو سعيد، لكنهم حولوني في طفولتي إلى عبدالسلام..
 
نقاط المليشيات أشبه بالجحيم، الصراط اللعين في قيامة الظلام، كان الرجل يفتش كتفي، لم ير أي سواد أحمله، كان يقبض بكل قوته على يدي، يبحث عن شظف، ويفتش أنملي، أنملي الذي يطلق الرصاص، حسب رأيه وكتفي الذي يحمل البندقية، فتش كل شيء، في نقطة العيار قبل جبل حبشي كان أحدهم وله نظرة صارمة يقول لي ببجاحة أشعر أنك داعشي، وددت أن أقول له أنت الداعشي، من سواك أيها الوغد، وما أقبح أن يجامل الإنسان عدوه الذي أمامه من أجل النجاة، أنا فعلت، عندما وصلت تحممت كثيراً لأمسح خجلي من نفسي، نفسي التي لأجل النجاة جاملت نقاط المليشيات، وتمنت لهم النصر المؤزر. 
 
أما العجوز، التي ركبت بجانبي، هي مريضة وتعاني من الفشل الكلوي، امرأة فقيرة تسكن مفرق شرعب وبحاجة لغسيل كلى في مشفى الثورة، اسبوعياً أعتقد، وتقطع الطريق الطويل إلى تعز وعندما كدنا نصل وبعد أن أحسست بالنجاة وتجاوزنا آخر نقطة مليشاوية ورأيت الأحرار قلت لها: ممكن رقمك. قطبت بوجهي..
فقط أردت الرقم لأرد الجميل، أساعد العجوز.
 
الطريق قاتلة مميتة، أنا الذي كنت أقطع الطريق الواصل بين الريف والمدينة بخمس دقائق، وإن كان الحصار منذ أمد فقد كانت تجربتي الأولى في معاناة الحصار، أدركت أن الحصار جريمة لا شبيه لها، جريمة كبرى
 
لعنة الخوف.. هكذا يعيش كل مسافر 
 
كنت بالبلاد قد انتظرت ساعة كاملة، تشير إلى الشمس، السائق لم يأت، تواردت في رأسي الأفكار، ربما يكون خيرا لو لم يأت، فالله ينجيك ان أحبك بما يحزنك من حزن أكبر، تخيلتني وأنا في طقم المليشيات مكبلا، وأعض صمتا، وأتمنى لو أخلف السائق موعده، لا يفيد التندم، بقدر ما يتعس المرء، عشت لحظات وكأنني في قبضة نقطة العيار، يسبونني، يلكزون رأسي، وأنا صامت ألتذ بالدموع المنساحة، أخاف الإهانة، أخشى الكهرباء في المعتقلات، وأعاني من مرض الأماكن المغلقة مهما كانت واسعة، أموت لو دسوني يوما ما في زنزانة، أن تخطر في بالي فكرة السقوط بيدهم أفضل حينها الانتحار من الوقوع بأيديهم والبقاء ولو لشهر فقط في الصالح، قررت السفر مهما كان الثمن، مثل كل مرة، لكن ربما القدر يزمني، أقبلت السيارة، حاولت تحاشي السائق، تزايدت دقات قلبي، رأيت بملامح السيارة سنوات من العذاب، تمر من بين عشرات النقاط، إحداهن ستنجح في التعرف علي، هيا يا عبدالسلام، عد، النجاة النجاة، وفيما لويت وجهي صاح هول السيارة من خلفي تماما، وقعت في الفخ، فخ الكبرياء، ناداني السائق: هيا يا عبدالسلام، حياني بتجاعيد سمراء، في فمه قات، حينها كيلا يقال عني خوافا مددت له بالحقيبة، كان قد ترجل ليوثق أغراضي بالشبك الأعلى، حيث تراكمت كل أغراض المسافرين الذين ينعسون الآن في العربة، أكمل النعماني ربط الأغراض، فتحت باب السيارة الأوسط ودخلت، مذ أول حنة لمرور السيارة بدأت بالأسئلة، ثم قاطعني السائق، هل معك تلفون لمس يا عبدالسلام، نعم معي، لكنني هيأته، وهو الآن في جيبي، لا لا انتبه، هل مسحت كل شيء كل شيء، نعم لم أترك حتى كلمة مرحبا. 
 
صاح السائق: يالله، إن وجدوه خاليا تماما يفكرون أن صاحبه مسح أشياء مهمة، لا تدعه معك وإلا الصالح تنتظرك، شعرت برهبة، هل خلوه تهمة، نعم تهمة، طيب أين أضعه، كنت أرتجف، بيد لم نخرج بعد من المدينة، شعرت امرأة بهلعي، من كلامي رقت لي، أخذته مني ودسسته معها.
 
وبدأت بجلدهم بالأسئلة، برأيك هل أنجو، ماذا يطلبون من الركاب، إلى أي حد يدققون في المسافرين، وهل لديهم سجل بيانات، وأجهزة، وكيف أبدو هل في سحنتي ما يلفت النظر، هذه أكثر الأسئلة التي تتوارد في خانات ركوب المسافرين..
 
التشرد الطويل.. ورائحة أمي 
 
وأنا في تعز كلما اشتقت لبلادي أصعد جبل صبر، حيث أرى بلادي من أعلى الجبل، الناس جميعهم يصعدون قمة الجبل للتنزه إذ هو المتنفس الوحيد للمدينة المحاصرة وأعتليه لأرى قبسا من بلادي القريبة، البعيدة كما هي الآن، وأستنشق رائحة بيتي الرابض خلف ذلك الجبل، وأرى والدتي وهي تجمع الحطب لإيقاد مافي الخبز وتخنقه سنوات التشرد وليالي الأسى الطويل.
 
الأسى، هو العنوان الأبرز لجيل الألفية الثالثة، في هذه المدينة، وأتذكر ماضيي، وطفولتي الفسيحة، كنت أغادر قريتي ظهراً وبظرف دقائق وأنا في مدينة تعز، وأصعد إلى قلعة القاهرة وأقضي وقتي مع رفاقي إلى منتصف الليل ومن ثم أهبط إلى المدينة وإلى منفذ الخروج وثمن العودة إلى قريتي من فرزة السيارات مئتا ريال فقط، وبظرف دقائق وأنا على فراشي وكان تاريخ هذه الرحلات عام  2009 وكنت بعمر العاشرة ولا أكثر..
 
أحتاج إلى طاقية الإخفاء كي أسافر، أسافر حيث أمي وأهلي، لا أستطيع، ولكن لولا الحصار كان لأمي أن تأتيني، أرى قريتي من أعلى جبل صبر بكل وضوح وأمي عجوز لا تستطيع تحمل مشقة جبل حبشي فكان التشرد.
 
إنها الحقيقة الماثلة أمام أعين الملايين، والوهم بالقدر نفسه، وضحكة الدهر النابية كأنياب الضباع والنشيد المأساوي الذي عزفته أنامل الحوثي في أوبرا الكارثة فتمايلت رؤوس الناس رقصاً وتحممت بالدم وأضاعت أقدام الناس من هول المعزوفة طريق الرجوع، الرجوع إلى أنفسهم، فضاعوا وضاع كل شيء.

ذات صلة