ملف- قصص من خلف القضبان: مخفيون في سجون الحوثيين في الحوبان

  • الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
  • 08:18 2023/08/30

مأساة الشاب خالد: ثلاث سنوات من التغييب والتعذيب
 
تفاجأ الشاب خالد حمود، 28 عامًا، بقرار إيقاف الحوثيين عدداً من السيارات رباعية الدفع، عند أول نقطة أمنية لهم في طريق الأقروض -الشريان الرئيسي من المدينة وإليها- وهناك كانت مهمة أحد المسلحين، التحقق من هوية المسافرين، ومعرفة الهدف من السفر.. لحظات حتى اقترب من خالد، وسأل بحزم: أنت داعشي؟ وتابع بسؤال آخر، خارج الحوبان ترفع إحداثيات؟
 
لم يكن يعرف الشاب أن الاختيار قد وقع عليه، رد بهدوء: "أنا طالب، أدرس مختبرات طبية، وخرجت اليوم أزور والدتي في المستشفى". وبلهجة آمرة، قال الجندي: "انزل، أنت ضيفنا، وبالصالح ستحكي التفاصيل كلها". بهذه البساطة، يقرر أحدهم مصيرك، وبدون مساومة، أو اعتراض تجد نفسك أسيرًا لدى الجماعة، قال خالد.
 
في منتصف 2017، كان يقصد خالد منطقة الحوبان، المدخل الشرقي لمدينة تعز، بهدف زيارة أسرته، إلا أن جماعة الحوثيين، حالت بينه وبين ذلك الوصول.. يروي الشاب تفاصيل الحادثة لـ"الساحل الغربي": "أخذونا من السيارة إلى الطقم مباشرة، ربطوا رأسي بقماش أسود، وما عرفت إلا عندما وضعوني في زنزانة مظلمة".
 
يومان مرا على خالد، بدون طعام أو شراب، لا يجرؤ على رفع صوته، أو المطالبة بما يسد رمقه، وفي ثالث أيام الاختطاف بدأت طقوس التحقيق، يرافقها تعذيب جسد السجين.. "تعرضت للضرب المباشر، وعشت أقسى الأيام.. تصور من شدة العذاب، كنت أدخل بغيبوبة، وما أصحو إلا بعد ما يرشونا بماء بارد.. التعذيب عندهم مرعب".
 
بعد أعوام ثلاثة من الاحتجاز، لجأت أسرة الشاب إلى أحد قيادات هذه الجماعة، والذي بدوره دخل بجولة مفاوضات مع اللجنة المسؤولة عن سجناء الصالح، ليتمكن من الحصول على قرار الإفراج، مقابل فدية مالية تقدر بمليون ريال يمني.. لقد عاد الشاب إلى حضن أسرته، بوجه شاحب، يعاني حالة انعزال، فضلًا عن معاناته النفسية، التي حاول تجاوزها بأقل الخسائر.. أما اليوم، يكتفي بوصف سنوات الاعتقال بالموت، فالسجون قادرة على تجميد الحياة والزمن، كما يقول.
 
مُعتقل البسطاء: معتقلون بلا تهمة
 
منذ البدايات الأولى للحرب في اليمن، سعى الحوثيون إلى تقليص هامش الحريات، عن طريق مسلسل طويل من الاعتقالات، وعمليات الإخفاء القسري، وكثيرة هي وسائل التضييق والقمع التي تمارسها هذه الجماعة ضد المدنيين، بمختلف المدن اليمنية.. ولأن مدينة تعز صانعة التحولات، والتغيرات السياسية، ومنبع الثورات على مدى مراحل التاريخ، فقد كان لها نصيب أكبر من الانتهاكات، بحسب تقارير حقوقية.
 
من مدينة سكنية، حول الحوثيون مباني مدينة الصالح إلى أكبر المعتقلات في البلد، كانت هذه الخطوة، نقطة بداية تهدف إلى دخول المدينة، وبعد السيطرة عليها في مارس/آذار 2015، لجأ هؤلاء إلى سلسلة من المضايقات، إلى جانب الاعتقالات العشوائية للبسطاء.. لقد خلف الحوثي قصصًا مأساوية، في مدينة مكلومة.
 
أم عدي: "زوجي مجرد عامل يومي"
 
"أنا بالسجن.. اعتقلونا الحوثيون". بهذه المفردات تلقت والدة عدي، خبر اعتقال زوجها، الذي اعتاد العودة ليلًا إلى منزله.. تشرح: "اعتقلوا زوجي بدون تهمة، لم يكن سوى عامل بالأجر اليومي، لا عسكري ولا مقاتل.. سألنا عنه، وبحثنا، لكن ما قدرنا نعرف مصيره". وتابعت: "البعض يقولون قد توفي بالصالح، والبعض يقول ما زال معتقلا".
 
بين السجن، والموت يتردد مصير الرجل، بينما تتأرجح هي وطفلها بين الفقر والجوع، ومعاناة الحرب، وظروف الأيام التي تكابدها المرأة بما تلاقيه من المحسنين وبعض الأقارب.. أما الطفل عدي، يدخل عامه السابع، لا يعرف والده، سوى صورة على الجدران. يكبر الصغير يومًا، وتصغر آماله بعودة والده، وهذا يفسر أن المعتقل ليس وحده من يعاني، فخلف كل سجين أسرة وأطفال يعيشون حالة من الفراغ، والمعاناة، والقلق اليومي تجاه تكاليف المعيشة، ومتطلبات الحياة، فضلًا عن انتظارهم عودة المعتقل.
 
تهم كاذبة: المدنيون مقابل أسرى حرب 
 
في سجون مدينة الصالح، لا يعرف السجين، التهمة التي تسببت باعتقاله، كما لا تعرف أسرته، مكان الاحتجاز، أو مصيره الأخير.. هل لا يزال على قيد الحياة، أم تعرض للقتل، أو الموت متأثرًا بالتعذيب.. تفيد المعلومات التي توصل إليها "الساحل الغربي" أن غالبية السجناء، جرى احتجازهم في نقاط أمنية، بتهمة الاشتباه، وآخرين بالعمالة، ونقل الأخبار والتحركات العسكرية، إضافة إلى إخفاء عشرات المدنيين بمبرر التعاون مع أطراف الحرب.. هكذا يختلق الحوثيون تهمًا كاذبة، لتبرير أساليبهم القمعية، واستمرارهم بأخذ المدنيين، وضمان السيطرة على الوضع.
 
يرى حقوقيون أن الاعتقالات التي يتعرض لها المدنيون في تعز، هي اعتداءات على الحق في الحياة والحرية، تسعى جماعة الحوثي من خلالها إلى ابتزاز أسرهم، لتتقاضى مبالغ كبيرة، مقابل الإفراج عنهم، إلى جانب ضمان استعادة أسراهم المقاتلين عبر صفقات تبادل الأسرى، التي عادة تحدث بين القوات التابعة للشرعية وطرف الحوثيين، وهذا ما يدفع الأخير إلى تكثيف الاعتقالات، وإخفاء المدنيين.
 
من جهتها تقول سميرة الحاج، صحافية: "الحوثي، يعتقل المدنيين، لأنه كيان لا يؤطر نفسه في إطار قانوني، ولا يعترف بدولة، أو على الأقل بالنسيج الاجتماعي، جماعة بتفكير مناطقي، سلالي، متمرد على الآراء والقوانين".. 
 
وتضيف: "يكون للمدني قيمة وقتما تكون أطراف الصراع تحترم القانون الدولي، وقوانين الحرب، بالتالي يتجنبون المدنيين؛ لكن الحوثي يستغل المدنيين كورقة ضغط لتبادل الأسرى".
 
تشير المعلومات والإحصائيات الأخيرة لدى رابطة أمهات المختطفين، إلى أن جماعة الحوثي احتجزت منذ بداية الحرب ما يقارب 1000 معتقل في سجون الصالح، بينهم أطفال.. رئيسة الرابطة، أسماء الراعي، تؤكد لـ"الساحل الغربي" بأن عدداً من هؤلاء المخفيين جرى الإفراج عنهم، ضمن صفقات تبادل الأسرى.. "الحوثي يطلق سراح عدد من المدنيين، بالمقابل قوات الحكومة بتعز تفرج عن أسرى ومقاتلين حوثيين.. آخر عملية تمت العام الماضي، وتعد من أكبر صفقات التبادل.. تتكون من 206 معتقلين مدنيين، بينهم معلمون، وأساتذة أكاديميون، وعمال بالأجر اليومي".
 
عذابات يوميات سجين: محاطون بالموت!
 
من الاعتقال، إلى الإخفاء القسري، وصولًا إلى سلسلة من العذابات يتعرض لها السجناء يوميًا.. فارس عبدالغني، دكتور صيدلاني، ومعتقل سابق يقول إن الحوثيين في الصالح تفننوا في تعذيبه بالضرب بالأسلاك والسلاسل الحديدية، وإبقائه لساعات في أماكن باردة، إلى جانب التعذيب الفردي في أوقات متأخرة من الليل، والتي تسببت بمضاعفات حالته الصحية.. "تسعة أشهر من الاعتقال والتعذيب، مرضت وتدهورت صحتي، لم يسعفونا إلى مستشفى، ولم أحصل على حبة علاج واحدة.. مهمتهم التعذيب، أما حياة المعتقل ليست مهمة".
 
يتذكر نشوان مقبل، معتقل آخر، بأن يوميات السجن تشبه الكوابيس، إذ تعرض الرجل، وهو في الثلاثينات من العمر، للتعذيب بالكهرباء، ونزع أظافر القدمين بآلات حادة، والضرب في المناطق الحساسة، كالرأس والبطن، والكليتين.. "اعتقلونا سنة وثمانية أشهر، كل ثلاثة أيام يحققوا معي، ويعذبونا.. وصلوا لمرحلة إنه يعطونا مخدر مع الماء، وأبقى غائب عن الواقع، اليوم التالي أشوف الجروح، والتورمات على جسمي".
 
تتنوع الانتهاكات بحق المدنيين، بقدر تنوع أساليب التعذيب.. العديد من المفرج عنهم، تحدثوا عن استخدام الحوثيين أساليب الحرق، والتعذيب بالكهرباء، وسوء المعاملة، إضافة إلى التهديد بالقتل، والإيهام بتنفيذ الإعدام بحق المختطف، أو احتجازه بجانب المرضى النفسانيين، والمختلين عقليًا.. هذه الممارسات، تعمل على هدم نفسية المعتقل، وتحويله إلى مريض نفساني.
 
وبشأن هذه الانتهاكات، يقول أساتذة القانون بجامعة تعز، إن الدستور اليمني يحظر التعذيب الجسدي، أو النفسي والمعنوي للإنسان المقيد حريته، كما يحظر الحجز في غير الأماكن الخاضعة لقانون تنظيم السجون، ويحرم التعذيب أو المعاملة بطريقة غير إنسانية، كما يقضي قانون الإجراءات الجزائية رقم (13) لعام 1994 بحظر تعذيب المتهم، أو إيفاؤه بدنيًا أو معنويًا لقسره على الاعتراف.
 
تكدس.. ظلم وأوبئة
 
يعاني هؤلاء المختطفون من ظروف الاحتجاز داخل أماكن ضيقة، حيث يتعمد الحوثيون احتجاز ما يقارب 20 مختطفًا في الغرفة الواحدة، إضافة إلى تكدس عشرات المعتقلين في صالات مغلقة، وغير كافية، الأمر الذي يزيد من نسبة انتشار الأوبئة والأمراض، وسط انعدام التهوية والنظافة.
 
يوضح الدكتور فارس: "سجناء مدينة الصالح يعيشون مأساة، أثناء فترة اعتقالي، داهم وباء السل الرئوي، T.B رئات عشرات من زملائنا، بجانب أمراض جلدية مختلفة.. كل هذا ناتج من بيئة مغلقة، وبعيدة عن الشمس، وتردي الخدمات المعيشية والمياه، وكذلك الصرف الصحي".
 
ويشكو السجناء من قلة الطعام، إذ يقدم لكل مختطف في وجبتي الإفطار والعشاء، القليل من الخبز مع بقوليات سيئة الطبخ، أما الغداء فقد اعتادوا على تناول الأرز وبعض الخضروات.. وبحسب الشهادات فإنه يجري تجويع المعتقلين، وحرمانهم من الماء في كثير من الأوقات، وهذا ما يجعلهم بين معاناة المرض والموت.
 
المخفيون في الصالح، يمرون بحالة من الإحباط واليأس والانهيار النفسي، نتيجة غياب الاهتمام، وتركهم بين جدران أربعة إلى مصير مجهول، أما العائدون بملامح باهتة، وأجساد هزيلة ومُتعبة، تبدو عليهم الندوب واضحة، يعانون من آثار نفسية وجسدية، فيما يشكو آخرون الاكتئاب الحاد، والهذيان المستمر، هذه المعاناة قد تتطور مع تقادم الأيام، لذا ينصح أطباء نفسانيون بالتأهيل النفسي، والعمل على دمج هذه الفئة بالمجتمع، وضمان العيش بهدوء، وممارسة الحياة بطبيعية.
 
أسئلة معلقة: تنصل المنظمات
 
ثمة قصص إنسانية مؤلمة خلف القضبان، فالمخفيون لدى سجون الحوثي، محاطون بالموت والتعذيب، يعيشون رعبًا يوميًا، والأهالي يعجزون عن الوصول إليهم أو السؤال عنهم، خوفًا من أجهزة الأمن القومي التابعة لأنصار الله، الذين ما زالوا يعتقلون المدنيين، وسط غياب الرقابة والمساءلة القانونية سواءً من الجهات الحكومية أو المنظمات ذات العلاقة.
 
وبالرغم من الشهادات التي توثق الانتهاكات، وأساليب التعذيب التي وصلت إلى حد الإعاقات الجسدية، إلا أن ملف المخفيين قسرًا لم يحظَ باهتمام المنظمات الدولية أو الجهات العاملة في المجال الحقوقي، ويتساءل كثيرون عن أسباب هذا التخاذل والترك من قبل المجتمع الدولي.
 
تشير سميرة الحاج، في حديثها، إلى أن المجتمع الدولي لا يقف مع الأسرى، ولا مع الشرعية، ضد الطرف المتمرد، تبعًا لمصالح واعتبارات غير ظاهرة.. "المجتمع الدولي يظهر أنه مناصر لقضايا الإنسان وبجانب المظلومية.. الأمر بعيد عن ذلك، هو يهدف إلى عمل توازن في المنطقة العربية، ويقلق من وجود قيادة واحدة.. لذا هو يريد طرفاً يكون أداة من الأدوات التي تنفذ مشاريعه، ولربما يجد هذا الأمر في جماعة الحوثي".
 
للمخفيين في سجون مدينة الصالح ألف قصة وقصة، جميعها ممزوجة بالألم والمعاناة اليومية، إضافة إلى عذابات نفسية وجسدية، وما يتعرضون له من انتهاك للإنسانية، وعدم مراعاة حقهم في الحياة والحرية، ناهيك عن منعهم من الزيارات، والتواصل مع العالم الخارجي.

ذات صلة