صنوف من الحكام استثمروا في المقدس

03:20 2020/12/12

كان الحاكم العباسي المنصور يقول للرعية (والرعية في لغة العرب هي الغنم التي ترعى): لا تلوموني على عدم إعطائكم شيئاً من أموال الخراج والجزية والمكوس، لأن هذا المال هو مال الله، وأنا خليفة الله ووكيله.. وإنما أنا قفل، إذا شاء أعطيكم فتحني، وإن لم يشأ أغلقني! وقد كان المنصور قفلاً! وبعد موته توارث الحكم بعده حكام أكثرهم كانوا أقفالاً، حتى أتى الترك فأخذوا الحكم والأموال، وحولوا أقفال بني العباس إلى لعب، ونساءهم سبايا، منذ نهاية حكم المعتصم حتى مجيء هولاكو وتتاره أصحاب دستور الياسة المسبوك من تعاليم فارسية ويهودية ونصرانية وإسلامية، ومع ذلك كان الجلف الخلف يقولون إن الخلافة ما تزال عباسية إسلامية!
 
قد تكون الفكرة أجلى بذكر حكاية نابليون بونابرت، فهي ترينا كيف استثمر ويستثمر رجال السياسة عواطف أتباع الأديان المخلصين الغفل، لكي يحققوا أهدافهم بسهولة.. تكلم في لحظة مهمة إلى أعضاء مجلس الدولة الفرنسي، قال لهم: لم أستطع الاستقرار في مصر، إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم نقي.. وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف، استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أتيح لي حكم شعب من اليهود لأعدت بناء معبد سليمان من جديد.. ولم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي.
 
هذا كلام نابليون برسمه ومعناه، ونعيد التذكير هنا أن مقالات عربية -يدرس بعضها لطلاب التعليم العام الجامعي- ما تزال تجادل حول إسلام نابليون وكيف كان! أما حرب الفاندي التي قادها الكاثوليكي الحقيقي(!)، فقد كانت بمثابة حرب إبادة جماعية، في المنطقة الريفية التي تقع جنوب غرب فرنسا، حيث عرف سكان الفاندي بتعصبهم القوي للمذهب الكاثوليكي، وعداوتهم الشديدة للثورة الفرنسية الكبرى عام 1792.. قمعهم نابليون باسم الثورة، التي أودت بحياة عشرات ألوف المعارضين، من بينهم ضحايا المذابح المفزعة في الفاندي، وكان ذلك نكتة سوداء في تاريخ تلك الثورة العظيمة.
 
لعل الذين قرأوا بعض كتب التراث العربي- الإسلامي، قد وقفوا على مقولات لتابعين، ولفقهاء ومثقفين، عاصروا حكم العائلات الأموية، العباسية، الفاطمية، الأيوبية، والعثمانية.. وتتضمن تلك المقولات تحذير أهل العلم من الدخول على الحكام والسلاطين والأمراء والوزراء، أو ارتياد مجالسهم.. وكان الباعث الأساسي للتحذير، حماية المعرفة وتحصين العلماء من استغلال الرؤساء، وحرمان السياسيين من استثمار خبراتهم وقدراتهم على توظيف الدين لتحقيق أغراض سياسية.
إن لدى السياسيين -وفي مقدمتهم الحكام- موارد هائلة للتطويح بالدين، لاستغلاله، لجعل رجل الدين شريكاً دينياً في الفساد، وجعل المثقف ينظر المظالم ويسكت.. والفائدة الكبيرة التي يتجنبها المتأملون في ذلك التحذير، هي أن الحكام والسلاطين والأمراء والوزراء كانوا لا يرغبون في تطبيق الشريعة كما هي.. وإلا ما الداعي للتحذير من الدخول عليهم أو من مجالستهم؟
 
وباع الحاكم الأموي الأشهر معاوية بن أبي سفيان سقاية من ذهب بأكثر من ثمنها، فقال له صاحب مهم للنبي، هو أبو الدرداء: يا سيدي الخليفة إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك.. فكان رد معاوية: يا أبا الدرداء، ما أرى بهذا بأساً.. وبصريح العبارة، أراد معاوية القول: الصواب هو ما فعلته أنا، ودعك من حديث الرسول يا أبا الدرداء! فلم يزد هذا الأخير على قولته: من يشهدني على معاوية، أحدثه عن رسول الله، فيرد علي برأيه.