أسهل تهمة لاستبعاد الخصم

11:43 2021/01/25

أحذق عالم اجتماع يعيش اليوم بيننا، وقد رأيناه في غير مرة يتنقل بين المتحاربين يدعوهم للسلام والوئام.. صاحبنا معروف في الأوساط الأكاديمية العربية، ونعرفه مثقفاً موسوعياً، وداعية مخلصاً لحقوق الإنسان، وتأثيره الإيجابي في الشباب والكبار ملموس على المستويين النظري والعملي، وعلى الرغم من تدينه فقد اتُهم بالردة عن الإسلام كذباً، ولولا خروجه من البلاد في منتصف ثمانينيات القرن العشرين كي تنتهي العاصفة لعصفت بمصيره ظلماً، ولما كان اليوم بيننا، يقوم بالأدوار الإيجابية التي ألمحنا إلى قليل منها.
 
قبيل تخرجنا من جامعة صنعاء بداية النصف الثاني من عام 1986، كنا نسأل عن الدكتور حمود العودي.. لم نعد نراه، وهو الأكاديمي الذي لا يتخلف عن مواعيد المحاضرات التي كان يلقيها على طلاب قسم علم الاجتماع في كلية الآداب.. كنا ندرك أن محاضراته لا تروق لجماعة الإخوان المسلمين التي لا تقبل أي فكر يختلف مع الأفكار التي تعتنقها.. عرفنا أن الجماعة تسعى لدى مختلف الجهات، لاستبعاد الدكتور من الجامعة كي يتوقف تأثيره في الطلاب.. ذهب فريق من الإخوان المسلمين إلى رئيس الجامعة الدكتور عبد العزيز المقالح، يشكون إليه الدكتور حمود، يطلبون منه توقيفه عن العمل في الجامعة، لكنه لم يستجب، فاتجهوا إلى هيئة مجلس الشعب التأسيسي لذات الغرض، وهذه أحالت شكواهم إلى رئيس الجامعة نفسه، ومن جهته أبلغهم أن أصحاب الشكوى لديهم مشكلة سياسية مع الدكتور، لا علاقة لها بالعلم ولا بالتعليم في الجامعة، وهي أنهم يعتبرونه يسارياً، وهذا أمر لا تحتمل جماعة الإخوان رؤيته في الجامعة.. بعد فشل تلك المحاولات لجأت الجماعة إلى الأسلوب السهل الذي تمرنت عليه الجماعة الأم في مصر، لاستبعاد خصومها الفكريين والسياسيين، أو القضاء عليهم.. تهمة الردة عن الإسلام.. وبقي كيف يحبكون هذه التهمة؟ بحكم المران الذي أشرنا إليه لم يحاروا، ولم يتأخروا، فقد نهض بالمهمة ثلاثة من جماعة الإخوان المسلمين: أولهم حمود هاشم الذارحي (توفي في شهر فبراير 2016)، وكان في ذلك الوقت من المعنيين الكبار في شئون المعاهد العلمية، وقبل ذلك كان سكرتيراً وسائقاً ثم زوجاً لابنة الشيخ يحيى لطف الفسيل الذي اختاره إبراهيم الحمدي -رئيس اليمن الشمالي- لمنصب رئيس الهيئة العليا للمعاهد العلمية في سبعينيات القرن العشرين، وهو صاحب الفتوى الشرعية بكفر الجمهوريين الذين قضوا على الحكم الإمامي.. أما ثانيهم فهو محمد حسن المؤيد القيادي العتيق في جماعة الإخوان، ثم عضو مجلس شورى حزب الإصلاح الذي استدرجته المباحث الأميركية من صنعاء عبر عميل يمني يدعى العنسي، للسفر إلى ألمانيا كي يستلم عشرين مليون دولار، فضبط بأحد فنادق برلين متلبساً، ثم نقل إلى الولايات المتحدة ليحاكم أمام قضاة المحكمة الفيدرالية ببروكلن أواخر شهر يوليو عام 2005 وحكمت المحكمة عليه بعقوبة الحبس مدة 75 سنة وتغريمه مليوناً ومائتين وخمسين ألف دولار بعد إدانته بخمس جرائم، عقوبة كل واحدة منها الحبس 15 سنة، وكان من بينها أنه استلم عشرات ملايين الدولارات من متبرعين أجانب متعاطفين مع تنظيم القاعدة، وأعاد إرسالها لقائد التنظيم في أفغانستان.. بينما كان ثالثهم موظفاً في إذاعة صنعاء يدعى محمد طارش، وهو همل.. هؤلاء الثلاثة -وبمعاونة آخرين- فتشوا في أحد كتب الدكتور حمود العودي، المنشورة (نظن أنه كتاب: المدخل الاجتماعي في دراسة التراث والتاريخ العربي الإسلامي).. ومن هذه الصفحة أخذوا عبارة مؤداها: أن المدرجات الزراعية في اليمن تكاد تكون من هبة الإنسان لا من هبة الطبيعة.. وفي صفحة أخرى توقفوا عند عبارة مؤداها أن القرامطة قدموا تجربة اشتراكية رائدة.. وفي صفحة ثالثة قرأوا قوله إن اليمنيين لم يدينوا لله باليهودية أو لم يعتنقوا الدين اليهودي.. جمعوا هذه العبارات وحرروها في دعوى للنائب العام للجمهورية وكان اسمه محمد البدري إن لم تخنا الذاكرة.. تضمنت دعواهم اتهام العودي بالردة عن الإسلام، ودليلهم على ذلك أنه نسب خلق المدرجات إلى الإنسان، وإلى الطبيعة منكراً بذلك صنع الله.. الدليل الثاني أنه اعتبر تجربة القرامطة اشتراكية ورائدة.. والدليل الثالث أن اليمنيين قد اعتنقوا اليهودية قبل ظهور الإسلام، بينما العودي ينكر أنهم كانوا يهوداً.. وعلى ذلك يعتبر مرتداً، ونطلب من النائب العام النظر في عريضتنا والتحقيق مع المتهم، وإقامة دعوى الردة أمام القاضي.
 
هذه الحالة اليمنية تشبه إلى حد كبير حالة حدثت في السودان عام 1968 وعام 1984 وهي قيام ثلاثة أحدهم داوود محمد زعيم جبهة الميثاق، باتهام محمد محمود طه بالردة، وطه هذا كان معارضاً للسلطة الموالية للاستعمار البريطاني، وأسس الحزب الجمهوري المعارض، وكان الرجل مثقفاً إسلامياً ذا نزعة صوفية، اتهم بالردة مرة ثانية واعتقل في العام 1984 بعد نشر كتاب الهوس الديني، فحوكم أمام محكمة غير دستورية، وقضى الحكم بقتله وأن يصبح ميراثه فيئاً للمسلمين، ووافق الرئيس جعفر نميري على تنفيذ الحكم في منتصف شهر يناير 1985، وفي فبراير 1986 قدمت أسماء محمود محمد طه دعوى أمام المحكمة العليا تطلب فيه النظر في الإجراءات التي تمت أثناء محاكمة والدها واستعادة ممتلكاته المصادرة، وبعد مراجعة المستندات والحيثيات، توصلت المحكمة الدستورية إلى قرار يفيد أن كل الإجراءات التي أدت إلى إعدام محمود كانت غير دستورية، وغير قانونية، وأن قضاة المحكمة الجنائية بالخرطوم لم يكونوا محايدين، والمحاكمة غير عادلة.. ما يعني أنهم أعدموا رجلاً بريئاً.
 
نعود إلى الموضوع المحلي، ونقول: وبالفعل قام النائب العام باستدعاء العودي وعرض عليه العريضة، فأنكر التهمة وأكد أنه مسلم متمسك بدينه، وكان هذا يكفي النائب العام لكي يقرر أن لا وجه لإقامة الدعوى.. لكن الجماعة مارست ضغطاً شديداً عليه، وفي نفس الوقت اتصل به من يهدده بالقتل بغض النظر عن مصير العريضة أمام النيابة والمحكمة.. أبلغ العودي رئيس الجامعة بذلك التهديد، كما أبلغ الجهات الأمنية، لكن تطمينات تلك الجهات له لم توجد حماية لأمنه الشخصي مما اضطره للانتقال خفية إلى عدن، ومنها إلى سوريا وهناك عرض الدعوى على القاضي عبد الرحمن الإرياني الرئيس الأسبق لجمهورية شمال اليمن، فاستنكرها، وكتب إلى الرئيس علي عبد الله صالح يقول له تدارك الأمر، فإن أفكار العودي تدور حول مسائل فكرية تاريخية تقاس بمعيار الصواب والخطأ، وليس بمعيار الإيمان والكفر.. وأثناء غياب الدكتور حمود وصلت دعوى الاتهام بالردة، إلى المحكمة، وكان قاضي المحكمة إخوانياً صميماً، فحكم بإعدام العودي ومصادرة وإتلاف كل تآليفه.. عاد العودي إلى بلاده في العام 1991 تقريبا في وقت كانت قد تحققت فيه الوحدة اليمنية التي اقترنت بالحريات العامة والتعددية الحزبية الإخوانية والاشتراكية والقومية والسلفية، ونسى الذين اجتنأوا عليه حكم المحكمة الكيدي الذي أجهدوا أنفسهم للحصول عليه.. لولا تلك المتغيرات السياسية لكان هذا المسلم البريئ محسوباً ضمن أعداد القتلى.