إرث البردوني الضائع والمسكوت عنه.. عن "الشيخ" و "مُنَى" و "الصحفي"!

  • الساحل الغربي، كتب/ عبدالرقيب الوصابي:
  • 10:24 2021/03/03

الشاعر/ عبد الله البردوني، في حياته وشعره يمني، بما يعنيه ذلك من انتماء إلى الشعب بمعاناته وكفاحه الدائم ضد البؤس والقهر والاستبداد، والتطلع إلى واقع تسود فيه قيم العدل والحرية والمساواة، وهي القضايا والمبادئ التي أكسبت شعره طابعاً إنسانياً عاماً.
 
ينتمي البردوني إلى الشريحة الواسعة من الشعب اليمني تلك المرادفة للفقر والبؤس والحرمان.
 
لقد كان البردوني شخصية متعددة المواهب، وفضلاً عن الشعر كتب في الأدب والنقد والأدب الشعبي والتاريخ الأدبي والسياسة... وغير ذلك من الجوانب التي احتوتها كتبه النثرية المطبوعة التي هي مثل دواوينه الشعرية أرخص الكتب ثمناً وأكثرها انتشاراً ونفعاً، ولهذا يتعين علينا أن نعتني بالبحث عن إرثه الفكري والنقدي الضائع أكثر من اهتمامنا بقصائده المخفية قسراً، وذلك لسبب بسيط يكمن في أن الشاعر البردوني قد اكتمل شعرياً.
 
ولكن، لماذا ينبغي علينا التركيز والانشغال بالبحث على كتب البردوني النقدية والفكرية أكثر من اهتمامنا بالبحث عن المجموعتين الشعريتين؟
 
 
الجواب، لأننا إذا تمكنا من العثور على مجموع هذه الكتب فإننا سنكون على موعد لإثراء الثقافة اليمنية وسنجد فيها ما نسد به تصدعات مجتمعنا وتصحيح الأخطاء التي سمحنا لها بالنمو يوما وراء يوم، وحتما سنجد من الحلول والمعالجات الحكيمة ما يوصلنا إلى تجاوز البؤس الذي نعيشه ويستبد بنا، إضافة إلى ما في هذه الكتب من تتبع وبحث واستشراف واستنتاج ومعالجات حكيمة وصولا إلى القبض على الحاسة المستقبلية التي مكنت البردوني من استشراف كل ما هو آت.
 
فمثلاً، كتاب "الجمهورية اليمنية" تكملة لليمن الجمهوري، وفيه تحليل للأخطاء التي رافقت تحقيق الوحدة.. ومن خلال اللقاءات والحوارات الثقافية التي أجريت مع الشاعر البردوني في مجلات عربية نجد أن البردوني يسرب بعض القضايا التي تم معالجتها في هذا الكتاب، إذ أكد الشاعر أن الوحدة اليمنية قائمة على وحدة النظام السياسي ما بين شطرين مع وجود تشابه ثقافي واجتماعي إلى حد ما، غير أن الوحدة اليمنية قد أعادت بقوة الحساسية القبلية والعشائرية بين شطرين، الشمالي منه تتحكم فيه السلطة القبلية بينما الجنوبي هو أقرب إلى المعاصرة والمدنية، ومع هذا التشخيص يصبح القرب أشد خطورة من البعد، وإن الأمر ليزداد سوءاً مع غياب العنصر المغير "المال" وبروز مظاهر التخلف النفطي، إضافة إلى تجذير دعائم التخلف الاقتصادي، واقترح البردوني أن الخلاص الحقيقي لإنقاذ الوحدة اليمنية يكمن في تعزيز حساسية المشاعر الشعبية بين النقابات والمؤسسات والأحزاب وتحول اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين إلى نقابة جماهيرية تقترب من كل شرائح الشعب باعتبار الشعب أقوى من السلطة ثقافيا واجتماعيا..
 
وكتاب "شاعرية الزمان والمكان في الشعر العربي" كتاب البردوني هذا الذي لم ير النور بعد ولا يتداول المهتمون شيئا من أخباره مع أن البردوني بشر به وتحدث عنه في أكثر من موضع. وعنوان هذا الكتاب يوحي عبر إشارات البردوني اللغوية بأهمية هذا المنجز الفكري الذي قد يتجاوز من حيث القيمة والأهمية "الثابت والمتحول" لأدونيس من جهة الغوص العميق في مدونة الشعر العربي بحثا عن السر الشعري وخصائص التعبير الشعري من خلال شاعرية الزمان والمكان.
 
أما بخصوص كتابه "الجديد والمتجدد في الأدب اليمني"، فنجد أن البردوني قد صرح لمجلة معين في عام 1997م في العدد "108 _ 109" عن الكتاب، وأفاد قائلا "إن الكتاب يغطي مراحل تطور مسار الأدب اليمني وسيرة الأدباء وفقهاء البلاغة وشيوخ وأعلام الشعر من العصر الجاهلي إلى اليوم.
 
 
وأضاف "إن دار سهيل للطباعة والنشر في قبرص تتولى طباعة هذا العمل الموسوعي، وأنه قد قام بسداد 4000 دولار أولية للدار فيما بقي مبلغ 6000 دولار لا تزال عائقا يؤخر ظهور الكتاب".
 
أما بالنسبة للمجموعة الشعرية الأخرى "رحلة من شاب قرناها"، يبدو أن حساسية هذا المجموعة تكمن في كونها تضم عددا من قصائد الهجاء التي ربما كتب بعضها في فترة متأخرة من حياة أما البعض الآخر منها فتم صياغتها في وقت مبكر من حياة ولعل هذه الفرضية هي التي دفعت بالأخ الشاعر/ محمد القعود لانتقاء مجموعة من القصائد تقترب من السقف الشعري الذي يعرفه الجمهور للشاعر/ عبد الله البردوني.
 
أما ماذا عن مصير هاتين المجموعتين فقد بلغني أنه تم انتقاء مختارات شعرية من المجموعتين "العشق على مرافئ القمر _ رحلة ابن من شاب قرناها" وتم طباعة المختارات عن طريق مكتبة ومقهى "وسم" اسطنبول _ تركيا.
 
وحتى لا تضيع جهود المحبين للشاعر البردوني هدرا ويخبو حماس متابعتهم وبحثهم عن الكتب المخفية قسرا فما زلت أؤكد على ضرورة البحث عن كتب الشاعر الفكرية والنقدية وكتاباته السياسية.
 
خارطة طريق
 
يقول البردوني في قصيدته “الطواف” وهي بالمناسبة من القصائد التي لم تنشر إلا عبر تسريبات صفحات الملحق الثقافي التابعة لصحيفة الثورة:
 
نَمَا إلى (الشَّيْخِ) أَنِّي شَاعِرٌ.. فَدَعَا
 
“أمَانةَ الحِفظِ” تُعْطِيهِ دَوَاوِينِي
 
وقَالَ مَن ظَنَّنِي: هَل هَاتَفَتْكَ “مُنَى”؟
 
مَنَّتْ كَثِيرَاً وأرْجُو أنْ تُمَنِّينِي
 
وقالَ لِي صَحَفِيٌّ: هَل نَزِفُّ إلى
 
(شَيخِ المَعَالِي) أتَمَّ الخُرَّدِ العِينِ
 
وأمَّنَت زَوْجَةُ المِذيَاع ضَاحِكَةً
 
وقَالَ مَن قَالَ: لَو قَصَّرْتُ يُقصِينِي
 
فَقُلْتُ: يَأْبَى هِجَائِي أنْ يَسِفَّ إلى
 
عِمَامَةٍ تَحتَهَا الشَّيخُ “ابن شَعْنُونِ”
 
إليَّ أهْدَى قَمِيصَاً لُبْسَ أرْبَعَةٍ
 
لِكَي أرَى كَيفَ لَمْ يَبْخَل بتَكْفِينِي
 
يا شَيخُ شَارَكْتُ “عِزْرَائيلَ” شَمْلَتَهُ
 
تِسعِينَ شَهرَاً، أُصَافِيهِ.. يُصَافِينِي
 
قَالَ الفَتَى أيْنَعَتْ عِشرُونَ مِن عُمُرِي
 
هُنَا، ومَا لاحَ لِي مَا أنتَ تُنْبِينِي
 
الأبيات السابقة تشير بذكاء إلى شيخ متنفذ نما إلى سمعه أن الشاعر عبدالله البردوني هجاه أو ربما أسقط القناع عن وجهه ليكشف القبح المخبوء تحت عمامته وأن هذا الشيخ –بدوره– أرسل من يداهم منزل البردوني.. 
 
وهنا أود التأكيد على أن قصائد كثيرة للشاعر البردوني تفصح عن مداهمة منزل الشاعر أكثر من مرة، ففي قصيدة “لص في منزل شاعر” نجد الشاعر يقابل فعل السطو ومحاولة اللصوص بالسخرية والتندر. غير أنه في المداهمات الليلية اللاحقة لمنزله أدرك جيدا الرسالة والتهديد المبطن وراء تكرار هذه المداهمات، ليقول في قصيدته “بيت من الريح” وهي بالمناسبة من القصائد التي لم تنشر بعد إلا عبر صفحات الملحق الثقافي:
 
قُل لِمَن أَرسَلَكَ اللَّيلَ: استَرِح
 
فالذي تَخشاهُ لَن يَحتَلَّ صَرحَك.. 
 
ولعل هذا الوعي القرائي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك اختفاء قصيدة للشاعر المعجزة عبدالله البردوني كان قد تحدث عنها وأشار إليها في أكثر من لقاء وموضع وهذه القصيدة بعنوان “أبطال.. ما بعد منتصف الليل”. 
 
والسؤال الذي يضع –بإصرار– نفسه هاهنا:
 
ترى من هذا الشيخ المتنفذ الذي ذكره البردوني ولمزه بقوله “بن شعنون”؟ وما علاقته باختفاء بعض كتب البردوني؟ وهل انهيار منزل الشاعر عبدالله البردوني –مؤخرا– فعل بريئ، أم ان هنالك العديد من الاحتمالات الآثمة بحق الشاعر وموروثه الفكري والشعري؟ 
 
ويقول الشاعر عبدالله البردوني في آخر قصيدة “رحلة ابن شاب قرناها” التي لم تنشر بعد إلا من خلال صفحات الملحق الثقافي: 
 
قال: ماذا حملتَ؟ قلتُ: كتاباً
 
وتأبَّطتُ صُرَّةً لاقتياتي
 
ثم ماذا؟ أسْكنتُ (ميمون) نصفي
 
قل ونصفي لمن؟ لتلك الحصاةِ
 
البيتان الشعريان السابقان يشيران بذكاء إلى جهة معينة دفع إليها البردوني بروايته “حكايات العم ميمون” بقصد الطباعة وتقاضى حقا فكريا “صرة” حسب لغة البردوني في القصيدة.. 
 
هذه الجهة لم تلتزم أدبيا ولا أخلاقيا بطباعة العمل الروائي ربما للمكاشفات والحقائق التي يوردها الخطاب الروائي خاصة فيما يتعلق بالأجواء والدلائل المصاحبة لاغتيال الرئيس السابق إبراهيم الحمدي، وتمادت هذه الجهة الرسمية مستفيدة من موت أسطورة الأدب العربي عبدالله البردوني، رحمه الله..
 
السؤال: هل بمقدورنا الاهتداء إلى هذه الجهة والضغط عليها بكل الوسائل لإصدار هذا العمل الروائي أو تسليمه لجهة تتكفل بطباعته؟
 
* الصورة: إرشيف وعدسة الأستاذ القدير/ عبدالرحمن الغابري
 
عبدالرقيب الوصابيناقد وأديب وباحث يمني ومهتم بشعر وسيرة وإرث شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني.
 

ذات صلة