ملف - تعز.. القناصة (8) | إنسانية الحالمة «رهام البدر» في ذكرى قنصها: موثِّقو الحرب.. ضحاياها!

  • تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
  • 03:18 2022/02/09

شهداء الإنسانية: موثِّقو الحرب.. ضحاياها!
رهام البدر.. إنسانية الحالمة
 
عند سفح جبل، رجلان وفتاة. ثلاثتهم في العشرينيات، يستقلون سيارة نوع "توسان"، في طريق العودة من العمل، يقطعون المسافات بسرعة متوسطة.. أمامهم، على بُعد مترين، يسقط مقذوف هاون، ينغرس في التراب، لم ينفجر، لربما هي العناية الإلهية. يدركون أنهم قتلى، تشير الفتاة لرفيقيها بالنزول، وكأنها خطة احتيال لصرف نظر قاتل مجهول.. خلف صخرة، أجمعوا على أن يترجل أحدهم وراء الآخر، شرط أن يحنوا الرؤوس وقتما سمعوا طلق رصاصات.
 
في منتصف طريق ضيق، وعر، أحدهم يسبق رفيقيه، يتبادلون الحديث علَّهم يستطيعون تناسي الخطر الذي يحيط بهم.. يرغبون بالتحديق بعيدًا للبحث عن ملجأ وإن كان صغيرًا، مع ذلك يفضلون السير كما لو أنهم في ساحة عرض عسكري، يؤدون مهمة "الخطوة المعتادة" بأيدٍ ثابتة، وعيون مسمرة نحو الأمام، يرددون "جندي الثورة، يحمي الوحدة". لكن هؤلاء ثلاثي مدني، سريع الخُطى، يتذكرون مواقفَ جمعتهم بها الحياة مصادفة. وبهذا جعلوا من شريط الذكريات أسلوبًا جديدًا للوداع، فور إحساسهم بأنهم على موعد مع الموت.
 
رهام البدر، أو البدر رهام.. بعض الأسماء تستحق أن توصف بشيء من الأثر والجمال الذي تركته في قلوب البسطاء.. شابة، نحيلة الجسد، شامخة الروح، قوية الإرادة، صافية العقل، دائمة الحركة، رمز للشجاعة، لا تهاب الموت، تتحرك كقائد، تجمع بين الهدوء والاحترافية، التواضع والوطنية، راصدة حقوقية، ومحامية قانونية، تنتمي للقضية بكل جوارحها.
 
 
بمعية ثلاثة أشخاص، كانت رهام همزة وصل بين المدنيين الضحايا، والجهات التي تُعنى بالإنسان، وتراعي حقوقه.. أسامة سلام، رهام البدر، مؤمن سعيد، وأحمد الصامت.. أربعة مهمتهم رصد الانتهاكات المدنية، توثيق الأضرار، ونقل صورة لكل قصة كان للحرب يد في معاناتها، منذ جرى تشكيل اللجنة الوطنية للرصد، 2015.
 
رباعي منسجم، وفريق يمتاز بروح المبادرة.. يسيرون خلف المنسيين، يشْتَمون رائحة الوجع، وسرعان ما يوثقونها.. المناطق المحاصرة والمغلقة في خطوط التماس كانت مقصدهم الأول، سعيًا وراء الحقيقة، وتخفيف أوجاع الناس، وتقديم مساعدات غذائية، إيوائية، وعلاجية.. لا يستثنون أحداً، أو مكاناً إلا زاروه.
 
بصمة عند كل باب، في جبهة مكلومة، خد طفلها الصغير، الذي اعتاد البكاء متأثرًا بأصوات الأسلحة، على جبين ابنتها التي انقطعت عن مدرستها لعامين، ولشقيقها المُقعد مبتور القدم.. ترميم النفوس، تأهيل الروح، وتجديد باقة شغف الأيام.. مهمات صعبة، وضرورية في زمن الحرب والسلم.
 
الـ 8 من فبراير / شباط
 
الثامن من فبراير 2018، كان "أسامة سلام" اسمًا لقافلة إنسانية بعد أن فارق روحه بأيام، إثر قذيفة سقطت دون إنذار أثناء توزيعه سللاً غذائية في التشريفات، شمال المدينة.. الثامنة صباحًا، الفريق يتوسط شارع جمال -جوار مبنى اللجنة الوطنية- بقافلته الغذائية والعلاجية تحمل اسم زميلهم.. مكان النزول "أبعر" ضمن مناطق "صالة".
 
جرت العادة على رهام أن تبادل الفريق كل ما يخطر في بالها.. الشورى في الأمر، واتخاذ الأنسب. اقترحت حينها أخذ استمارات التوثيق لرصد قضية "طه فارع" الذي فجّر الحوثيون منزله، وقتلوا زوجته وولده، وهنا صارت المهمة مهمتين.
 
 
ساعة من الزمن حتى وصل الإنسانيون قصر "صالة" الذي سكنه الإمام أحمد في فترة حكمه.. نقطة عسكرية، وأفراد يطلبون بقاء المساعدات، إذ يرون دخولها أمراً قد يُلفتُ انتباه مقاتلي الحوثي في تبة السلال، يجعلهم يباشرون الضرب والقصف. مبررات كثيرة عارضتها رهام، التي كان الوصول إلى الضحايا هو همها الوحيد.. بعد دقائق، سُمح لهم بالعبور. وفي منتصف الطريق بدأت مسيرة الرعب، والاستهداف المباشر.
 
الطريق وعر، والسائق لم يتمكن من السيطرة والقيادة للهروب من رصاصات عشوائية.. أمامه منعطف واحد، يبدو أنه كان ممرًا للسائلة، اختبأوا عنده ما يقارب النصف ساعة، ثم أكملوا طريقهم نحو مأساة الأسر.
 
أسرة تقتات وجبة واحدة، طوال يومها، وأسرة تسكن الكهوف وحيدان الجبال بعد أن تركت منزلها.. الخوف يبدو في أعين الصغار، والمرض في أوجه كبار السن، لا يعرفون للعلاج طريقًا.. وزعت رهام وزميليها الغذاء والدواء، رصدوا الحالات ووثقوا الأضرار مع ساكني المكان.
إقرأ أيضاً:
- ملف (7) - قصة قنص عاقل عُقّال حي الروضة وطالب في امتحان الثانوية وطفل أمه "عبدالواحد"
- ملف (6)- «مُخلص طاهر» امرأة لن تتكرر.. ثلاثة ورابعهم أمهم ضحايا قناصة الحوثي
- ملف القناصة بتعز (ح 5)- أول ضحايا القنص من المقاتلين ولمرَّتين.. قصة الشاب الشرعبي «بين طلقتين وعكازتين»
- ملف (4)- ثالث ضحايا قناصة الحوثي بتعز.. قصة الناجي من 6 رصاصات في جولة القصر
- ملف (3)- قصة ثاني ضحايا قناصة الحوثي بتعز: أبٌ في طريقه إلى أولاده!
- ملف (2) - "فردوس" الناجية تروي مأساة أول ضحايا قناصي الحوثي بتعز.. برصاصة واحدة رضيع ووالده قتيلين!
- ملف (1)- ضيف الله الصوفي يُحَقِّق في حلقات : تعز.. حياة مُحاصَرة بالقناصة، تعايش يومي مع الموت
كانت الساعة تقرب من الواحدة ظهرًا لحظة تأهبهم للعودة.. تقدّمت بهم السيارة مسافة، لكن قذيفة "هاون" سقطت أمامها، لم تنفجر، إنما غيرت مسار العودة.
 
"النزول حلًا" ظنت رهام أن نزول الفريق قد يكون حلاً أو سبيلاً للنجاة. وبإشارة منها غادر السائق بمفرده.. أحمد الصامت، يسبق رفيقيه رهام ومؤمن بخطوتين، بعد اتفاق ثلاثتهم أن ينخفضوا لمجرد سماعهم صوت الرصاص.. يسيرون بخفة، لا يحملون شيئاً، ملابسهم فحسب، يحاولون تناسي الخوف بتبادل الحديث..
 
طلقة من النوع أربعة عشر ونصف، اقتطعت عنق مؤمن، يلتفت أحمد نحوه ليرى رأسه يتطاير بعيدًا عن جسمه، تلقائياً يرفع الضحية يديه، فتصيبه ثاني الطلقات، وتبعد كلتاهما من المعصم.. رهام تهوي بأحمد، يرتمي أرضا، يرى أمامه يداً مبتورة، وفقرات ثلاث مع قصبة هوائية بجانب جسد عنقه ينزف دمًا، وأشلاء من حوله.. ضحية وشاهدان تجمدا في مكانهما برهة من الزمن.. لا يقدران على شيء، حتى الصراخ..
 
طلقة ثالثة، تصيب يد رهام اليمنى، مخترقة بطنها.. "شفتها مَلقية، والأمعاء حولها" يقول أحمد، الذي حاول الاقتراب ومنعته شظايا طلقة رابعة اخترقت رأسه والظهر.. كانت تقول "انقذنا، انقذنا".
 
في منطقة نائية وبعيدة، شبكة الاتصالات منعدمة، والمكان خالٍ.. رهام تنادي زميلها "اتصل ينقذونا، في جوال صغير" يهاتف الأخير صديقهم ماهر العبسي، بكلمة واحدة "انقذونا" ويصمت.. يزحف نحوها ليجدها هامدة.. بعد مرور سنوات أربع ما زال أحمد يتساءل عن الكيفية التي مكنته من البقاء والصبر أمام الحادثة.
 
 
الناجي الوحيد، يتذكر أن أحدًا جاء لإنقاذه.. "على بعد مسافة رأيت طقمًا يأتي باتجاهنا، أحسست بأمل يتجدد.. رفعتُ يدي إشارة بمكاننا، وكان هناك صوت يردد "عادهم أحياء".. "القناص بدأ يستهدف السائق، فزاد السرعة، وشعرتُ بالموت ونحن نتوسط الشارع.. مظطرًا سار على جسد مؤمن، وكان آخر مشهد رأته عيناي، جسد مهشم الرأس يمر من فوقه طقم".
 
جوار قصر صالة، ترك فريق الإنقاذ أحمد للإسعافات الأولية.. "فقتُ، لا أعرف أين أنا، ما الذي حدث، وأين رهام، أسأل ويخبروني أنها توفيت.. تمنيتُ لو أني معهما، خير لي من سماع خبر رحيلهما".. الشاهد الوحيد، عانى كثيرًا، تهرّب من العلاج، وانعزل مدة تزيد عن ثلاثة أشهر، لا يريد العمل، إذ صور غيابهما كما لو أنك فقدت عضوًا من جسمك، يصعب عليك استبداله وإن كان العضو نفسه.. لقد كانوا بمثابة توليفة إنسانية مكتملة الأركان.
 
استهداف الشهود، معركة مفتوحة غير متكافئة، غرضها إخفاء كل ما يتصل بالحقائق التي وثقها ناشطو وصحفيو المدينة منذ سنوات.. لكن رهام لم تمت، بل صارت جائزة دولية سنوية تُمنح للمدافعين عن حقوق الإنسان.. شهداء الإنسانية، يسكنون المجتمع، قلبه وروحه.

ذات صلة