دراسة - عن أنة اليمنيين الأولى (2-2)

  • بلال الطيب
  • 09:09 2022/10/15

تمهيد:
في الجزءِ الأول من هذا المقال، أشرنا إلىٰ أول بلية وأعظم رزية، عرفها اليمنيون، وأصيبوا بها، كما أبانَ عنها الأستاذ أحمد محمد نعمان في رسالته الشهيرة (الأنَّة الأولىٰ)، وفي هذه المقالة نكملُ ما تبقىٰ من ظلال قاتمة لأنٍَّةِ اليمنيينَ الأولىٰ.
تواصل سلبي
 
كان الإمام يحيى دائم الاتصال والتواصل برعيته، عبر عساكرة المُتوحشين طبعًا، لا ليتفقد أحوالهم، ويُنفذ مَطالبهم، عملًا بقول – من يدعي أنَّه جده – النبي محمد صلى عليه وسلم: «كُلكم راعٍ، وكُلكم مَسؤول عن رعيته»، وإنما لكي ينهب أموالهم، ويتفنن في أذيتهم، ويُمعن في إذلالهم، عملًا بالمقولة الاستعبادية الدارجة: «جَوع كَلبك يتبعك»، وهي العبارة التي هذبها بقوله: «غبر الشميل إذا لم يُظلموا ظَلموا»!
 
وقد تَحدث الشاعر عبدالله البردوني عن ذلك التواصل السلبي، وصور تلك العلاقة الاستغلالية بقوله: «كان الإمام يحيى لا ينقطع عـن قرية أو منطقة إلا مدة قصيرة، فقد كان مأموروه وجنوده يمسحون البلاد طولًا وعرضًا، يتحسسون ما يجري، ويتحصلون ثمرة ما ينبت وما يتحرك، يأتي المُخمن عند بزوغ الثمرة، يليه القباض عند حصادها، يليه الكاشـف على القباض، يليه العسكري لتحصيل البواقي، يتبعه عَدَّاد المواشي، ثم مُثمر الخضر والفواكه، فيدوم اتصال الإمام بالشعب علــى طِيلــة العام، عن طريق المأمورين والعساكر، ويزيد اتصاله أعنف إذا نجمت أحداث، واحتدم شِجار».
 
وحين قام أحد أصدقائه – أي أصدقاء الإمام يحيى – بمُراجعته في التخفيف من جور الضرائب التي كان يَفرضها على المُواطنين، خاطبه بقوله: «هل رأيتهم يحملون البصائر ويعرضون أرضهم للبيع؟!».
 
وقد عَمل الأحرار الأوائل على تحسين تلك العلاقة الشائكة، وإيجاد قانون رادع ينظمها، ولو عدنا إلى أدبياتهم الحافلة بتلك المآسي، لوجدنا أنَّ رفع الظلم عن الرعية المساكين كان البند الأول في سلسلة مطالبهم الإصلاحية التي قدموها للإمام يحيى حميد الدين 1934م، ليتعمق الأستاذ أحمد محمد نعمان في ذات الأوجاع والمطالب في رسالة شهيرة أسماها (الأنـَّة الأولـى)، موجهة لـولي العهد أحمد يحيى حميد الدين 1937م، سبق وأنْ اقتطفنا فقرات منها، وأثرينا بها موضوعنا بشمول.
 
وقد جاء في مُقدمة تلك الأنَّة: «يا صاحب السمو، إن أشد آلام الإنسان هو الألم الذي لا يستطيع أن يشكوه فما أشد آلام رعيتكم، وما أعجزهم عن الشكوى؛ بل ما أخوفهم من الأنين والتوجع والتأوه، هؤلاء رعيتكم يناشدونكم العدل والإنصاف، فقد انقطع أملهم بعد الله إلا منكم، وقلَّ رجاؤهم إلا فيكم، فهل لكم أن تجعلوا حداً للمصائب النازلة بهم، والمظالم التي أقضت مضاجعهم، وسلبت راحتهم، وأقلقت بالهم، وكانت هي أكبر عامل في تفضيلهم البلاد الأجنبية على وطنهم، والهجرة على الإقامة».
 
وفي ذات العام أرسل التاجر ناشر عبدالرحمن العريقي بمجموعة مطالب مُتصلة باسمه وباسم الجالية اليمنية بمستعمرة شرق أفريقيا، والأخير كان فيما بعد وأخوه شاهر من أكبر الداعمين لحركة الأحرار الدستوريين، وتعرض للسجن، وخسر في سبيل ذلك جُلَّ أمواله، ونجا من الموت بأعجوبة، والمطالب التي بين أيدينا قدمها إلى ولي العهد أحمد، ومنه إلى والده الإمام يحيى حميد الدين.
 
نص أول بند من بنود تلك الوثيقة الأربعين على رفع الظلم عن الرعايا، فيما دعت باقي المطالب إلى توظيف ذوي الكفاءة، ومحاربة الرشوة، وتفعيل الرقابة الإدارية، ونشر التعليم، وفتح مدارس على الأسلوب الحديث، وفتح مدارس صناعية وزراعية، وإرسال البعثات الطلابية إلى أوربا، وإيجاد مكاتب صحية، وتشييد مستشفيات بعموم المدن اليمنية، وتوفير المياه، وفتح مكاتب بريدية، وتعزيز حضور العملة الوطنية، وغيرها من المطالب.
 
وفي بداية العام 1941م ذهب القاضي محمد محمود الزبيري إلى صنعاء لتقديم برنامج (جمعية الأمر بالمعروف) إلى الإمام يحيى، وهو برنامج إصلاحي شامل يقع في 22 صفحة من القطع الصغير، ومقدمة كتبها بنفسه، متبوعة بـــ 37 مادة تحت عنوان: (ماذا نريد أنْ نفعل)، وكانت جميع المواد تدور حول التمسك بالإسلام الصحيح، والدعوة إلى تطوير جميع مرافق البلاد المالية، والصناعية، والإدارية، وإزالة الظلم عن الرعية المساكين، وهو الأمر الذي أغضب الإمام الطاغية عليه، فشكل لجنة لمـُـحاكمته برئاسة القاضي زيد الديلمي، وحين تأخر الأخير في إصدار الحكم، وجه بحبسه وعدد من الأحرار في سجن المشبك في جبال الأهنوم.
 
كان القاضي الزبيري لا يعرف شيئًا عن تلك المظالم، حتى رآها أثناء تواجده في لواء تعز بأم عينيه، عبر حينها عن امتعاضه الشديد، وقال مُتألمـًا: «أول نبضة من نبضات الوطنية أحسستها جياشة في قلبي، فوارة في دمي، كانت في قضاء “القماعرة” حيث رأيت مشاهد من الظلم، والاضطهاد، والسلب، والنهب، تشمئز لها نفس الحر الكريم.. لقد كان ما رأيته مُفاجأة لم أكن أتصورها، فأخذت لأول مرة أكتب رسالة عما شاهدته من فظائع، وأندد بالأوضاع القائمة.. ومن هنا كان في مقدمات مطالب الأحرار إلغاء الخطاط، والتنافيذ، والتخمين، وجعل الزكاة أمانة».
 
وعلى صدر صحيفة (صوت اليمن) استمر الأحرار بنشر مطالبهم ومطالب غيرهم الإصلاحية، وقد حوى أحد أعدادها نصائح ومطالب علماء صنعاء، والموجزة في النقاط الآتية:
 
– جعل الواجبات المالية أمانة على أصحابها يؤديها الرعايا والمواطنين من أنفسهم.
 
– إسقاط الجبايات (الضرائب) الجمركية الغير شرعية، والمنهي عنها، مثل المكس، وزكاة الباطن، وعائدات بيت المال.
 
– إلغاء نظام البقايا التي أرهقت كثير من الفلاحين، والذي نتج عنها هجرة الكثير من الرعايا إلى خارج الوطن.
 
– منع أبناء الإمام والأمراء من مضايقة الناس في معايشهم.
 
– تحسين رواتب الموظفين، ومنع الرشوة التي انتشرت بشكل كبير؛ وذلك نظرًا لقلة رواتب القضاة.
 
مطالب الأحرار الأوائل الإصلاحية كانت داعية في الأساس إلى المساواة والعدالة الاجتماعية، وتطبيق شرع الله، لتُركز مُقترحاتهم الاقتصادية فيما بعد على إيجاد مصادر أخرى لدخل الدولة، تخفف من حدة تلك الجبايات التعسفية التي اثقلت كاهل الرعية، وهي مطالب – للأسف الشديد – لم يُعرها الأئمة الطغاة أي اهتمام؛ بل ازدادوا عُتوًا ونفورا، وظُلمًا وفجورا، حتى أنَّ زوال ذلك الطغيان كان بنظر الرعية المساكين ضربًا من المـُحال، وحين تبدد بفعل الثورة السبتمبرية المـُباركة، التي كان أبناؤهم ركيزتها الأساسية، كانت دعوة أولئك المكلومين على أي ظالم مُستجد تلخصها هذه العبارة: «زالك ما أزال بيت حميد الدين».
 
 
جوارح الإمام
 
«من قال برأسه كذا، قلنا بسيفنا كذا»، قانون الغاب الذي كرسه الأئمة السلاليون من بيت حميد الدين وأسلافهم في سُلطانهم، فأزالوا قيم العدل والحب والتسامح، وبعثروا بكرامة الإنسان اليمني فوق التراب، وكان لهؤلاء الطغاة عساكر قبليون أعفاط، تم تجنيدهم بعناية لقهر الشعب وإذلاله، وتطبيق قانون الغاب بصورة أشمل، وكي تعُم مصائبه الصغير والكبير دون استثناء.
 
وكان حال هؤلاء المـُتنفذون المـُنفذون أشبه بوصف المـُتنبي الشاعر:
 
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
 
لكي يقال عظيم القدر مقصود
 
وقول الزبيري الثائر:
 
والعسكري بليدٌ للأذى فطنٌ
 
كـــــأن إبليــــس للطغيــــان رباهُ
 
أسس الإمام يحيى حميد الدين ذلك الجيش خالصًا مُخلصًا على أساس قبلي محض، ومُعظم أفراده كانوا من قبائل شمال الشمال، من كان يطلق عليهم (أبناء ألأنصار – أنصار الله – أنصار الحق)، الذين حاربوا معه الأتراك، وصاروا يعانون من البطالة بعد رحيل الأخيرين، وكان يُسمى بـ (الجيش البراني)، حيث يتولى أفراده تسليح أنفسهم، وفق رغباتهم، ومن مالهم الخاص، ولأنَّ الخدمة في ذلك الجيش كانت اختيارية؛ فقد ظل قوامه يتأرجح صعودًا وهبوطًا، وتذكر بعض المراجع التاريخية أنَّ أعلى سقف بلغه حوالي 50,000 عسكري.
 
حُددت مدة بقاء الفرد في ذلك الجيش من سنه إلى سنتين، ومن ثم يتم إبداله بشخص من أهله أو قرابته، ولكل مجموعة عريفة أو شيخ، وهو المسئول عنهم، وكان الواحد منهم لا يُسمى جُنديًا، بل مُجاهدًا في سبيل الله، وكانت تسميتهم الشائعة (عُكفة)، وهي كلمة مُشتقة من الاعتكاف، والمغزى منها: أنَّهم في حالة جهاد واعتكاف؛ ما داموا بعيدين عن أهلهم وقراهم، عبادة لله، وطاعة للإمام! وحق فيهم قول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه إبراهيم الخليل: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُون».
 
ومن الصفات التي تُطلق على ذلك الجيش أنَّه غير نظامي؛ بل عدو النظام، وكان أفراده يضيقون من الانضباط، ورؤساؤه يرفضون التحديث، ويصورونها للإمام على أنَّها مُرهقة للميزانية والأفراد، ووصل بهم الأمر إلى تحريم ارتداء السراويل القصيرة لأنَّها مُخالفة للشرع! وغيرها من الأمثلة المضحكة المـُبكية التي لا يتسع المقام لذكرها.
 
الغرض الأول من وجود ذلك الجيش كان يرجع إلى رغبة الإمام يحيى في مُنافسة الجيش النظامي، فهو – أي الإمام يحيى – لا يريد لهذا الأخير أنْ يكون جيشًا قويًا، حتى لا ينقلب عليه، فالبراني يعتبر الأصل في نظره، لأنَّه الجيش الوفي الذي عاصر الجميع، ووقف في كل الحروب إلى جانبه وجانب والده، ومن سبقهما من أئمة؛ لذلك كانت له الأسبقية في كل الأحوال والظروف.
 
أفراد ذلك الجيش كانوا دائما في حالة تحفز للحرب، وأغانيهم وأهازيجهم أغاني وأهازيج حرب، والعسكري منهم يحظى باحترام من يعمل في معيته، وكان يُبدي العامل سروره بأنْ يكون ذلك العسكري في رفقته، فهو بالإضافة إلى مسنده القبلي، غليظ الطباع، لا يتهاون في أمور الجباية، ولا يعرف قلبه الرحمة.
 
تتلخص مهام ذلك الجيش في الخطاط والتنافيذ والمأموريات، وقد تناولنا تفاصيل هذه المهام المتصلة بالجبايات في موضوعنا السابق، والويل كل الويل للرعية إذا لم يحسنوا استقبالهم، فعندئذ يقوم العسكري المُنفذ بإطلاق رصاصة في الهواء، تسمى (تضميره)، ويعود إلى العامل ويدعي أنَّهم ضمروه، فيرسل الأخير على الفور مجموعة من العساكر لتأديبهم.
 
توجد في المقام، والألوية، والقضوات شعب خاصة بالتنافيذ، وتوزيع المأموريات، وهناك يتسابق هؤلاء العساكر لشرائها مُقابل مبلغ من المال يدفعونه للمسؤول عنهم (رشوة)، تتفاوت من أمر لآخر، فكل منطقة لها ثمنها، وهذا التهافت سببه أنَّ أجرة التنافيذ تساوي مرتب عدة أشهر من رواتبهم التي لا تتعدى الخمسة ريالات.
 
أضف إلى ذلك أنَّ الأكل الذي يأكله هؤلاء العساكر عند الرعية لا يجدونه في ثكناتهم، والضيافة التي يحضون بها لا يجدونها عند أهلهم؛ ولذلك كانت هذه المهنة محببة إليهم، وبسببها نجح الأئمة في ايجاد ذلك العداء السافر بينهم وإخوانهم الرعية، وهو العداء أطال في عُمر دولة الإمامة الكهنوتية، وأمد في عذابات اليمنيين، ومكن السلاليين المُحتلين من رقابهم.
 
 
شريعة الوحوش
 
في رسالته التي بعثها لأمين الجامعة العربية عبدالرحمن عزام باشا 19 أكتوبر 1946م، قال المناضل عبدالله الحكيمي كلامًا كثيرًا عن عساكر الإمامة، وعذاباتهم المُتجددة، وقال أنَّ الإمة اليمانية تجرعت علقم الحياة، وذاقت من آلام الاستعباد والمهانة والاستكانة أشد العذاب، ثم تعمق أكثر في نقل تفاصيل تلك المعاناة، حيث قال: «فأرسل جيشه المسلح – يقصد الإمام يحيى – حتى أنزله في بيوت الرعية الوادعين الآمنين المُستكينين، ما أعطى لجيشه النفوذ المطلق على الأهالي، وفرض له مقرراته ورزقه ورزق من يعول؛ بل ثروته مع أهله وأولاده، وأولاد أولاده، ومن تناسل منهم، كله على حساب الأهالي، ومن مال الأهالي».
 
ثم تعمق – أي المناضل الحكيمي – في نقل تفاصيل تلك المُعاناة، حيث قال: «وقد طفق هذا الجند البربري المُتوحش منذ تأسيس حكومة الإمام، يعيث في البيوت فَسادًا، وأي فساد، فهتك العار، وافتض صون الشرف والعفاف، ونهب الأموال، وكبل الرجال بالسلاسل والأغلال، ورماهم في غياهب السجون»، وأضاف أنَّهم – أي أولئك العساكر – يعودون بعد ذلك إلى بيوت الرعية، ويقومون بأمور تبرأ إلى الله منها الشرائع والأديان، وأصبح الواحد منهم رب المنزل الذي يقطن فيه، وسيد ساكنيه من الأطفال والنساء.
 
والويل كل الويل لمن يتجرأ من أولئك الرعية ويطالب برفع أولئك العساكر، وعن ذلك قال المناضل الحكيمي أيضًا: «وكل فَريضة يفرضها الجند على الأهالي فهي الحق الذي لا يمكن الرجوع عنه، ويحرم على الأمة المُراجعة فيه، ولو أنَّ واحدًا مَنَّى نفسه بالمراجعة من أجل هذا العدوان، وهذا الطغيان، فيكون قد خرج عن الدين، وأصبح ما بقي من ماله وعرضه مهدرًا مُباحًا».
 
وأضاف أنَّ الإمام يحيى أراد بتلك الأساليب الجهنمية إخضاع اليمنيين أكثر، حتى لا يبقى لهم إلا الإنابة والرضوخ، وإذا ما اعترضوا على ذلك؛ قام بتكفيرهم على الفور، وأكد – أي المناضل الحكيمي – ذلك بقوله: «وإذا طالبته الأمة بالعدالة والتخفيف.. ويتصالح معها على إلغاء التنافيذ العسكرية، ورفع الجند من البيوت، التي لم يتبق فيها إلا الأطفال والنساء، وناشدته باسم الاسلام والشريعة والدين، أنكرها من الدين، ونسبها أنَّها خارجة عن الدين، وأنَّها خالفت الإجماع».
 
وغير المناضل الحكيمي، هناك أحرارٌ يمنيون كُثر دأبوا على تعريف العرب والعالم بتلك المعاناة، منهم هذا المناضل المجهول – يُعتقد أنه الأستاذ أحمد محمد نُعمان – الذي بعث في مُنتصف خمسينيات القرن الفائت برسالة طويلة إلى الجامعة العربية، قال فيها كلامًا كثيرًا عن أولئك العساكر المتوحشين، وذكر بأنَّهم يعبثون بحقوق الرعية بصورة تفزع لها النفوس، وتُنكرها الأخلاق الكريمة، وتغضب لها شريعة الوحوش، وأرجع ذلك إلى نشأتهم الأولى القائمة على الشراسة، والحقد، والحرمان.
 
وأضاف: «وقد يبلغ اللؤم في نفوس هؤلاء العسكر أنْ يصروا على أن يستقبلهم الرعية بالطبول والمزامير، وبعضهم لا يكتفي بهذا؛ بل يبلغ به التعنت أنْ يشترط على الرعوي بتوسيع باب بيته حتى يدخل الدار والبندقية في وضع أفقي، وبعد الغداء يقومون بمضغ القات، ويحيط بهم بعض المغنيين والمسوطين من رجال ونساء القرية، وصاحب البيت وأولاده واقفون للخدمة، ثم تمر الشهور وهم على هذه الحالة يتنقلون من قرية إلى أخرى، والحقوق التي تجمع تحمل على دواب العشائر المـُسخرة».
 
وأردف: «وقد تبلغ بهم النكاية إلى أن يتطلعوا إلى عورات النساء، ومطاردتهن، وإجبارهن في بعض الأوقات على الفاحشة، ولابد لصاحب البيت أنْ يطلق لهم الحرية للاطلاع على كل ما يحويه البيت، ويتغاضى عن اقتراف أشنع الجرائم التي تلحق بشرفه، وإلا ضربوا جسمه بالسياط».
 
كان هؤلاء العساكر المُتوحشون يتباهون بأفعالهم تلك، ولديهم أشعار كثيرة تؤكد ذلك، منها هذا الزامل:
 
حيـــــــــــن قـــــــالـــــــــــوا: هــــــــيا شــــــرق يا قبيلي
 
قُلــــــــت هــيتا مَره، قــــــومي وهاتي صميلي
 
أصبـــــــحـــــت بيـــــــن دولتــــــيـــــــن اغتـــــنـــــمـــها
 
شـــــــوري اليــــَوم شـتــــــور، والقــــيــــــل قيـــــلي
 
قـــــبلــــــــــما يـــــــــســـــبـــــــــروا يســــــــــــدوا عـــــــــلي
 
ذاك يــــا صنــــــــو لك، وهـــــــــاذاك لي.. لي
 
وانت ســـــر لك هنــاك واذبح وهات قات
 
واعـــصــــــدي يـــــــا مــــــــره، وزد يــــــــا قبـــــيـلي
 
أجــــــــــرة العســــكـــــري والا بــــــاب سيـــــــدي
 
القــــــصب والــــحبـــــــوب وأدي حــــــــمــــــولي
 
وسبق لإحدى شاعرات الضالع أنْ صورت ذلك المشهد المُـتكرر، وعلى لسان أحد العساكر بالقول:
 
يـــــــــــا نـــــــاصـــــبـــــــي بـــــــادر
 
بـــــــــــــــــالصــــبــــــــــــوح عـــــــــــجـــــل
 
ولا فــــــلا بـــــد مـا نربطك
 
وتــــــــــدي الحــــــق والبـــــاطـــــــل
 
وهذا أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري نقل لنا في إحدى قصائده صورة مُصغرة لذلك التوحش، عبر مساجلة شعرية بديعة اختزلت كل المُعاناة:
 
العجوز:
 
يــارب كيف خلقت الجُند ليس لهم
 
عنــــــدي طـــــعـــــــــــــام ولا شـــــاة ولا نـعــم
 
ويـــــلاه مـــــالي أرى وحـــــشـــــًا وبنـــــدقه
 
أذلّك العســــكـــري الـــــغــــاشــــــم النهم؟
 
العسكري:
 
نعـــم أنا البطــــل المغــــــــوار جئت إلى
 
عجــــــوزة لــــــــــم يهـــــذب طبــــعها الهــــرم
 
إنا جنــــــود أميـــــــر المـــــــؤمنيــــــن فــــــلِمَ
 
لا تذبــحي الكبش يا حمقاء دونهمو؟
 
أين الـدجاجة؟ أيــــــن القات فابتدري
 
إنا جيـــــــاع ومــــــــــا في حيـــــــكـــــــم كـــــرمُ
 
العجوز:
 
يــا سيـــــدي ليــس لي مال ولا نشب
 
ولا ضــــــــــــــيــــــــاع ولا قــــربى ولا رحــــمُ
 
إلا بُنـــــَي الــــــذي يــــــبــــكي لمســــغــــبة
 
وتلك أدمعــــه الحمـــــــــراء تنــــســـجـــــمُ
 
وهـــــذه البــيــــد فاقطف من هواجرها
 
مــــا شئــــــــت إنــا إلى الرحمن نحتكم
 
مـــــاذا يريــدون من جــوعي ومسغبني
 
إنـــــي لكالحمــــل المشـــــــــوي بــيــــنهم
 
يــطـــــلبـــــون زكـــــــاة الأرض ليـــــس بها
 
إلا الحمـــــام وإلا الحــــجــــر والـــــرخم
 
أم جـــــزية الكـــــوخ لا كـــانت جـــوانبه
 
الســــوداء ولا نهـضــــت في ظله قدم
 
أم قيـــمة القبــــر قبل الموت واأسفاه
 
الكــــوخ قبـــــري فما للظالمين عموا؟
 
العسكري:
 
إني إذن راجــــعٌ للكوخ أهـــــــدُمُـــه
 
يا شــــافعيـــة إن الكــذب دأبكموا
 
وقال الشاعر الزبيري في قصيدة أخرى أكثر شمولًا:
 
جَهْـــــــلٌ وأمــــراضٌ وظـــــلــــمٌ فـــادحٌ
 
ومـخـــافــــــــةٌ, ومــــجــــــــاعــــــةٌ، وإمـــــامُ
 
والجيـــشُ يحتـــــلّ البلادَ ومــــا لَـــه
 
في غيــــــرِ أكــــــــواخِ الضعيـــفِ مقامُ
 
يَسْطُــــــو وينــــهبُ مــا يشاءُ كـأنّما
 
هُــــــــــــوَ للخـلـــيـــــفةِ  مِـــعْــــــولٌ هــــدّامُ
 
نثـــــرُوا بــــــــأنحــــــاءِ البــــلادِ ودمّـرُوا
 
عِمْــــــــــــــــرانـــــــهـا فـــكــــــــأنهـــــــــمْ ألغــامُ
 
أكلوا لُبابَ الأرض واختصُّوا بها
 
وذوُو الـخـصــــاصـــــةِ واقفــون صيامُ
 
وفي قصيدته التي هجا فيها أمير إب الحسن بن الإمام يحيى قال القاضي عبدالرحمن الإرياني:
 
والعصيـــــــــمات ما لنا من أذاهم
 
قط في هــــــذه البـــلاد اعتصام
 
قد غـــــدا من بيوتنا لهم المأوى
 
ومــــن أهـــــــــلنـــــا لـــــهــــم خــــــدام
 
وقال أيضًا في قصيدة أخرى:
 
معــاول الهـــــدم في البـلاد
 
والجُـــنـــد تنـــفيـــــذهـــم بـــلـــيـــه
 
قد نـــــاء من حملها العباد
 
“خطاطـهم” في القـــرى رزيه
 
يـــذوب في نــارها الجـماد
 
فهـــــل نـــــرى عصــــبــــة زكـــيــــه
 
في الشعب تنحو به الرشاد؟
 
وقبلهم بـ 100 عام قال الشاعر أحمد القارة قصيدة شعرية طويلة عن هؤلاء العسكر القبليون، جاء فيها:
 
القبـــــــيــــــلي عــــــــــــدو نـــــــفســـــــه
 
صـــــــــــدق، قــد قالها المجرب
 
كم يطيــش في الظـلال حسه
 
حيــــــن تشـــــــــرق وحيــــن تغرب
 
حـــــــــق بـــــرميــــــل يســـــد نخسه
 
ويـــــــــــــدزه وهـــــــــــــــو مسنـــــــــــــب
 
وبـــــشــــــامـــق تــــــدوس ظـــــهـــــره
 
وفـــــــرق كــــــل اليـــــــــــوم فـــــــرقــة
 
وزنـــــاجـــــــــيـــــر تــــــفـــــك صــــدره
 
كل حلقــــــة تــــــــــلــــــز حــــــلـــقـــــة
 
وحـــــزم أثــــــل تكـــــد جــــــــحـــــره
 
كـــــــل ضــــــــربة تــــشـــــــــل نـتـــفه
 
ما عليــك في الجعيـل ملامة
 
لك ثــــــــواب تبـــعـــــد الشنــــــاعة
 
لا تـــرجــــــي لـــــه الــــســــــلامـــــــــــة
 
لا، ولا تطــلـــــب الشــــــــفـــــــــاعة
 
 
 
إدمان البردقان
 
حين زار الرحالة الدنماركي – الألماني المولد – كريستن نيبور اليمن في عهد المهدي عباس بن المنصور حسين بن المُتوكل القاسم 1763م، تحدث عن أحوال عساكر ذلك الزمان، وهي تفاصيل بمجملها تتشابه إلى حدٍ ما مع ما ذكرناه آنفًا، ومن ضمن ما قاله: أن الواحد منهم – يقصد العسكر – يستبسل في خدمة وإرضاء الإمام، وإذا كان ثمة مُواجهة فإنه يربط ساقه إلى ركبته، ويستمر في إطلاق النار على أعدائه إلى أن يفنيهم أو يفنوه.
 
وأضاف: «يحتفظ الإمام بقوات من الجنود لم استطع معرفتها بالضبط، إلا أنَّه يعتقد – يقصد الإمام – بأنَّها تبلغ حوالي أربعة آلاف من المشاة، وألف من الخيالة، جند معظمهم من حاشد وبكيل، والرؤساء الأربعة لهذا الجيش، هم مشايخ همدان، ووداعة، وسفيان، وخولان، وبجانب هؤلاء الضباط العموميين الأربعة ذوي الأنساب العالية، يوجد هناك أيضًا نقباء كثيرون، هم أدنى نسبًا، وبعضهم كانوا عبيدًا في شبابهم، ووظيفة نقيب هي أعلى مرتبة يمكن أن يمنحها الإمام، أما مرتبة شيخ فلا تمنح إلا بالنسب».
 
أما أسلحتهم –  كما أفاد نيبور – فهي الرماح وسيوف المبارزة، وبعضهم يحمل المسدسات في قراب السروج، والجميع لا يعرف شيئًا عن الملابس الرسمية، وكل واحد منهم يلبس ما يروق له.
 
وقد أشتهر أولئك العسكر طول الوقت بـإدمانهم البردقان (الشمة)، والحشيشة، والخمرة، وكانوا يفرضون الجزاءات المالية على الناس في سبيل الحصول عليها، وفي ذلك قال العلامة ابن الأمير الصنعاني:
 
وأمــــــا الجـــــــــزاءات التي كل ليلةٍ
 
سيـارًا تسمى وهي إحـــدى الفواقرِ
 
فـــــفـــي بـــردقــانٍ أُنفقت وحشيشةٍ
 
وخـــــــــــمــــرٍ لخمــــــــارٍ ولهــــــوٍ لسامرِ
 
الباطل – كما قال جون ستيورات – له أتباع مؤمنون به، ومخلصون له، وتبعاً لذلك فإنَّ هؤلاء العساكر الذين عاثوا في ربوع اليمن الأخضر فسادًا، وإرهابًا، كانوا هم جند ذلك الباطل، وجوارح الإمام التي يبطش بها، وكانوا أيضًا دعامة وسند نظام بيت حميد الدين البائد، وأسلافهم؛ ولولاهم لما استمر مخاض ثورة 26سبتمبر1962م لأكثر من سبع سنوات، ولولاهم ما عادت الإمامة الزيدية (الهادوية) لتكشر عن أنيابها من جديد.
 
 
 
هاربون من الجحيم
 
بسقوط مناطق اليمن الوسطى والغربية بيد جحافل الفيـد الإمامي، انكمشت الأماني، وتراجعت الأحلام، وصارت الغُربة خيار الجميع المـُر، رفع الأئمة السلاليون من وتيرتها، وضيقوا على الرعية أيما تضييق، وأجبروهم على الرحيل والمُغادرة، في مشهد مؤلم، تكرر بكثافة طوال عهدهم البائس، ولم يبق في القرى الخضراء سوى الشيوخ، والأطفال، والنساء، يندبون حظهم العاثر، ويشكون لله ظلم الإمام، وجور العساكر، ويبكون فراق الأب، والابن، والأخ، والزوج.
 
وسبق للعلامة ابن الأمير الصنعاني أنْ خاطب أئمة عصره قائلًا:
 
رعـــــايـــــــــاكـــم في الخافقيـــن تفرقت
 
وفــارقت الأوطـــان خوف العساكر
 
إذا سئــــلت عـــن جــــــوركم وفعالكم
 
أجـــــابـــت عليـــــنا بالـــدموع البــوادر
 
الرحلة لم تعـد شتـاءً أو صيـف؛ بل صارت في كل الفصول، ومسكونة بالجوع والخوف، وكأنَّه قدر اليمنيين «ومزقناهم كل ممزق»، وحين جاء الأئمة من بيت حميد الدين، مزقوا الشعب اليمني شرَّ تمزيق، وسلبوه كل شيء حتى الكرامة، وكان عهدهم حسب توصيف الشهيد محمد أحمد نعمان: «قاتم النظرة للوجود، بطبيعة قادته القادمين من المغارات والكهوف، والجبال الجرداء السوداء، وعناء المعركة الطويلة المدى مع الأتراك، والثقافة الشيعية الحاقدة على الوجود».
 
من اللحظات الأولى لاجتياح عساكر الإمام يحيى مناطق إب وتعز بقيادة ذئبه الأسود علي بن عبدالله الوزير، وتهامة أيضًا، وقع الرعية بين خيارين كلاهما مُر: البقاء أو الرحيل، وحين وزع الطاغية بنيه سيوف الإسلام على أعمال اليمن، اشتد الظلم، وعمَّ البلاء، وفي ذلك قال الشهيد محمد محمود الزبيري:
 
والشعـــبُ في ظِلّ السيوفِ ممزقُ ال
 
أوصــالِ, مضطـــــهدُ الجَنـــــابِ يضامُ
 
وعليـــــــه إمَــــــــا أنْ يُــــــغـــــــــــــادرَ أرضـــــَــــــهُ
 
هـــــــرَبًــــا وإلا فــــــالــــــــحيــــــاة حِــــــــمــــامُ
 
وبلغة التعزي الموجوع ترجم الشاعر أحمد الجابري ذلك المشهد المؤلم بغنائية حزينة، فيها دعوة صريحة للهروب من جحيم الأئمة وعساكرهم، قال فيها:
 
المـــــطـــــــر يســكــــــــــب
 
مــــــــــو يـــــفيــــــد نصـــرب
 
والـــــذئــــــاب تــــقـــــــرب
 
هــــــربــــــــــوا جـــــا اللـــيــــل
 
من جهته الشاعر محمد أنعم غالب عبر عن تلك المعاناة بصورة أشمل بقصيدته الشهيرة (الغريب)، ومنها نقتطف:
 
طارده الجباة
 
وباع نصف ثروته
 
ليدفع الزكاة
 
وأجرة التقدير  والجباة والجنود
 
ورشوة الحاكم والأمير
 
ولم يكن وحده في هذه المأساة
 
وفي الطريق صادف الكثير مثله
 
وفي نفوسهم نفس الحنين للرحيل
 
وألقت السفن حملها بشاطئ مهجور
 
وأطلق في نهاية القصيدة هذا التساؤل الصارخ:
 
يا ركب اليمانين المشردين
 
يا من أراكم تعبرون كل درب
 
وتعمرون كل أرض
 
وأرضكم خراب
 
يا أيها الركب الطويل
 
متى تعود؟
 
متى تعود؟
 
 
 
سجنٌ كبير
 
في مُذكراته تحدث المناضل عبدالغني مطهر العريقي عن رحلته الأولى إلى المهجر أواخر العام 1932م، وعمره لا يتجاوز الـ 12 ربيعًا، وهي تفاصيل طويلة اختزلت جُلَّ المعاناة، شبه بلده بـ (السجن الكبير) الذي «نسجت جدرانه عناكب الحكم الإمامي، فاختنقت الحريات في شباكه، وأهدرت في براثنه كرامة المواطنين»، والذي لا يسمع نزلاؤه سوى ما يجري من إذلال وتعذيب، وعد الهروب من ذلك السجن نجاة، مستدلًا بقوله تعالى: «أو لم تكن أرض الله واسعة».
 
وفي أنته الأولى خاطب الأستاذ أحمد محمد النعمان السلطات الإمامية الغاشمة قائلاً: «لقد صبرنا حتى سئمنا الصبر، وسئمنا للصبر نفسه، وكادت الشعوب التي ملأنا أرصفتها، وموانيها، وشوارعها أن تجأر بالشكوى، وتصيح بملء فيها من عناء احتمالنا، ومزاحمة سكانها».
 
وأضاف: «لقد خجلنا من المقام في الغربة عالة على الأجانب، نتقلد أشق الأعمال وأتفهها، وبلادنا الغنية بثرواتها ومعادنها وخيراتها كانت أحق بجهودنا وكدّنا وتعبنا لو وجدنا مجالًا للعمل، فإلى متى ترضون لرعاياكم الاستمرار على هذه الحالة المحزنة ينتظرون فضلات الأمم، ويستجدون الشعوب».
 
وأردف: «من ينكر اليوم أنَّ سيل الهجرة الجارف يجتاح الرجال والأطفال والشبان، وعصي الجوع تسوقهم وسوط الظلم يشردهم ويُنفرهم، فهل من عطف وإشفاق؟ هل هناك عدل يعود الناس إلى ظله، ويتدثرون بُبرده، أم الحالة لا تزال هي هي، ورجال الظلم هم هم.. إننا لم نفضل الغربة على الإقامة عن رضى واختيار؛ بل هاجرنا عن ضرورة شديدة كادت أنْ تودي بنا».
 
بعد هروبه إلى عدن يونيو 1944م، بعث القاضي محمد محمود الزبيري برسالة نارية إلى الإمام يحيى، ومنها نقتطف: «وبلغ البؤس بشعبكم في هذه الآونة أمدًا أكل الناس الحمير، والقردة، وفتّو الروثة والبعرة ليأكلوا حطام الحبوب التي لفظتها أمعاء البغال والخيول، وحتى بلغ الناس من العنف والاضطهاد أنْ هاجرت النساء أفواجًا إلى عدن فِرارًا من عُنف العسكر وامتهانهم، وهذه حقائق حاضرة نحن على أتم استعداد في البرهان عليها حتى لا يكون فيها شك ولا ريب».
 
وأضاف: «أن أمة هرب ربع سكانها إلى الخارج، وليس فيها طبيب ولا مُهندس، ولا مُحامي، ولا جرائد، ولا مطابع، ولا زراعة، ولا تجارة، ولا صناعة، ولا جيش بمعنى الكلمة، فمن الـمُـستحيل أنَّها تدفع عن نفسها تيار الاستعمار الجبار فيما إذا هاجمها ولو بطائرة واحدة».
 
ومن عدن أيضًا، خاطب سيف الحق إبراهيم والده الإمام يحيى في إحدى رسائله المنشورة في صحيفة (صوت اليمن) قائلًا: «يا أبتاه.. هل سألتم عن أبناء اليمن الذين قضى عليهم أخي أحمد والحسن بجورهم وتعسفهم؟ هل استفسرتم عن أحوالهم؟ إنها تُعجل بالنقمة، فقد بلغت الأحكام الدرجة القصوى من الظلم والاستهتار بالشريعة، ولا يحاسبهم أحد على أعمالهم».
 
وأضاف الأمير إبراهيم: «أما أهالي لواء تعز وإب فقد ضاقت عدن بمهاجريهم في الأيام الأخيرة فرارًا من ظلم الحسن وأحمد، ومن يستر عنكم الحقائق ويقول أنَّ الحالة في اللواءين كما يُرضي فقد كذب عليكم، فلا يوجد في اللواءين ابن أنثى لم يصبه الظلم، والنهب، والهتك».
 
وخاطب في رسالة أخرى الرعية الكادحين المغلوبين على أمرهم قائلًا: «أما أنتم أيها الزراع الكادحون، فخطبكم عظيم، وحالكم أليم، وقد طال صبركم على جور العمال، وعسف المأمورين النهابين، وأذية العسكر “المخططين، والمنفذين”، الذين يحتلون منازلكم، وينتهكون حرمة بيوتكم، وطالما اعتبركم الظالمون خولًا وعبيدًا، تزرعون ليأكلوا، وتجوعون ليشبعوا، وتشقون ليسعدوا، ثم أنَّهم لا يرحمونكم أذا أجدبتم، ولا يساعدونكم إذا افتقرتم، ولا يداوونكم إذا مرضتم، وقد ضعفت أحوالكم، وتناقصت أجوركم، وبعتم أراضيكم، وهاجر بعضكم إلى خارج البلاد فرارًا من الظلم، والعسف، وطلبًا للعيش الذي حرمتموه في وطنكم».
 
أجبرت الظروف بعض أولئـك الهاربين على الالتحاق بالجيش البريطاني، والجيش الإيطالي، وبنشـوب الحرب العالمية الثانية حلَّت الكارثة، وحـَدث أنْ تقاتل الأخـوة تحت راية تلك الـدول المُتصـارعة، ولا أروع من توصيف الشاعر محمد أنعم غالب لذلك المشهد المؤلم، حيث قال على لسان أحدهم:
 
حـاربت لا دفاعًا عن وطن
 
حـاربت من أجل الرغيف
 
بجـانب الفاشيست
 
وفي الليالي السـود بين الدم واللهب
 
رأيت لي صحابًا.. كانـوا من اليمن
 
في الجانب المـُضـاد
 
حاربتهم وحاربـوني
 
لا دفاعًا عن مثـل
 
وكان لا يهم من يعيش أو يمـوت
 
ولا يهم قاهـر أو منكسر
 
في رسالته التي بعثها لأمين الجامعة العربية، السابق الإشارة إليها، عرَّج المناضل عبدالله الحكيمي على هذه المعاناة، وقال أنَّه وفي حال أحاط الأعداء باليمن من كل جهة، فلم يعد يبقى بسبب ذلك الهروب من يقوم بمهمة الدفاع عنه، وأضاف: «وليس في اليمن من يدافع عنها، فثلث الأمة قد قضى – أي الإمام يحيى – عليها، وثلثها قد تاهت على وجه الأرض، والثلث الأخير ينقسم إلى قسمين، قسم في غياهب السجون، وقسم قد أضناه المرض والجوع».
 
 
باب شعوب - صنعاء
باب شعوب - صنعاء
 
عبور إلى الوطن
 
ما يطمس ذلك الوجع أنَّ بعض هؤلاء الهاربين كان لهم عظيم الأثر في دعم ومُساندة الحركات التحررية في الداخل اليمني، وقد لمعت أسماء كثيرة لمهاجرين قدموا الكثير في سبيل انتصار القضية، واستعادة الكرامة، وقد سجل الأستاذ سعيد أحمد الجناحي أدورهم باستفاضة بالغة في كتابه الموسوم: (أوائل المغتربين وحكاية العبور إلى الوطن).
 
يقول الجناحي: «لا شك أنَّ مسار المغتربين اليمنيين تميز بخصوصيات لم تتوفر عند غيرهم، حين تجاوزت هجرتهم من أجل الذات إلى هموم الوطن، ومشاركتهم في حركة التغيير التي كانت هم كل القوى الوطنية، لذا برز دورهم في خضم الأحداث الوطنية، مما حدد مكانتهم في أدبيات الحركة الوطنية التي زخرت بتسجيل تضحياتهم، ومواقفهم، وأدوارهم، فأضحت جزءًا من تاريخ الثورة اليمنية».
 
كان عدد سكان المملكة المُتوكلية بعد خروج الأتراك من اليمن لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، وقيل أقل من ذلك، مئات الآلاف منهم قضوا نحبهم بفعل المجاعات، والأمراض، والحروب التي لم تتوقف، و1,200,000 منهم تفرقوا في أغلب بلدان الله، هروبًا من ذلك الجحيم، وهكذا تناقص سكان اليمن، ووصل عددهم في أواخر أربعينيات القرن المُنصرم إلى حوالي ثلاثة ملايين نسمة.
 
كانت أغلب بلـدان الله مَحط رحال، ومهوى أفئـدة، وكانت عـدن المدينة، والحبشة الدولة، الأقرب للجوء اليمنيين الاضطراري، تشاركهما عديد دول إفريقية، وأوربية، وإنْ بنسبة أقل، انقادت إليها خطاهم بلا توقف، واستقبلتهم بلا عراقيل، ككائن أدمي مُرحب به، أنشأوا فيها مستوطنات يمنية، ونظموا أنفسهم، واحتكوا بثقافتها، ولم يعودوا يفكروا بالعودة إلى الوطن حتى تعود العدالة، والكرامة المسلوبة.
 
بعد تولى الطاغية أحمد الإمامة بداية العام 1948م، أرسل الشيخ محمد سالم البيحاني إليه بقصيدة ناصحة، مُهنئًا إياه بالنصر، ناثرًا فيها بعض المطالب الإصلاحية، ومما جاء فيها:
 
وجميع ما نرجوه من فضل الإمـــــام
 
هــــــــو المضي بمـــجـــــده المعهــــــود
 
في فــــك مسجــــــون ورد مهــــــاجـــــر
 
تـــــرك البـــــلاد وعــــــاش بيـــــن هــــنود
 
وعلى ذات المنوال الناصح، قال الشاعر عبدالله البردوني في إحدى قصائده:
 
عيـــــد الجلـــــــوس أعر بلادك مسمعًا
 
تنـــــبيـــك أيــــن هناؤها هـــــل يــــوجــد
 
فيـــم السرور ونصــــف شعــبك هاهنا
 
يشقي ونصف في الشعوب مُشرد
 
مع نهاية العام 1959م توجه الاستاذ أحمد محمد نعمان من القاهرة إلى عدد دول المهجر بغرض التعرف على أحوال المهاجرين فيها، وجمع تبرعات لإنشاء كلية بلقيس كصرح تعليمي يلم شتاتهم، ويربط أولادهم بوطنهم الأم، وفي ليبيا التقي بعدد منهم ممن سبق والتحقوا بالجيش الإيطالي في الحبشة، حيث قادتهم الدولة الفاشية لمحاربة إخوانهم العرب، إلا أنَّهم انظموا إلى صفوف الثوار، وقاتلوا تحت قيادة البطل العربي الشهير عمر المختار.
 
وجدهم الأستاذ النعمان وأقرانهم في تونس «راضون عن أحوالهم ومعيشتهم، لا يفكرون بأمر اليمن، ولا يخطرونها على بالهم»، وبالنسبة لليمنيين المتواجدين في المغرب، فقد سجل النعمان إعجابه الشديد بهم، وبأحوالهم، فهم حد وصفه مهتمون بالتعليم، شديدو الحنين لليمن، وقدر عددهم في الدار البيضاء وحدها بحوالي 1,000 نسمة.
 
إحصائيات اليمنيين في باقي البلدان لم تكن دقيقة في ذلك الوقت، وسأكتفي هنا بذكر أهم بلدين توفرت إحصاءاتهما، الأولى بريطانيا، وقد بلغ عدد اليمنيين فيها في العام 1946م حوالي 60,000 نسمة، والثانية الحبشة، حيث قدر عدد المهاجرين فيها بأكثر من نصف مليون نسمة.
 
وما يميز اليمنيين في الحبشة أنَّهم انشؤوا مدرسة كبرى 1948م، وتخرج منها الآلاف، أشهرهم الأديب أحمد محمد عبدالولي الذي خاطب أقرانه ذات رواية: «لا تنسوا أنتم.. أنَّ هذه الأرض لن تنفصل عنكم، مهما هربتم، إنَّها جزء منكم، تطاردكم، ولا تستطيعون منها فكاكًا، أنتم يمنيون في كل أرض.. وتحت كل سماء..».
 
أين القبلة؟!
 
وبدلًا من أنْ تقوم السلطات الإمامية بإصلاح الأوضاع، وتهيئة الظروف، وتطمين المهاجرين الهاربين من جحيمها، وحثهم على العودة لإنعاش اقتصاد البلد المُنهك، أصدرت بيانًا بائسًا 26 فبراير 1938م، لغمته بالمفردات الفاضحة الحاثة على العودة إلى البلد، على اعتبار أنَّ تلك العودة هي عودة إلى خالقهم أصلًا، حيث لا تتحقق عبادة الله جل في علاه إلا في بلد الإيمان والحكمة، أما بلاد الله الأخرى فلا يعرف أولئك المُغتربون حتى اتجاه القبلة!
 
وحول هذه الجزئية المُضحكة المُبكية جاء في إحدى فقرات البيان ما نصه: «وأما أمر الدين فالمصاب في ذلك أعظم وأجل، والظاهر على كل من ركب البحر أنَّه يترك الصلاة والصيام، وما أوجب الله عليه، ويغرق في الآثام، ويدخل بلدان لم يعرف فيها أين القبلة، ولا يوجد فيها مسجد، ولا من يدين دين الإسلام، أو يقول لا إله إلا الله، ولا من يعرف وقت صلاته وصومه، وغير ذلك من الشرور التي إذا تحققت منه كانت ردة والعياذ بالله».
 
لم يتطرق البيان للأسباب التي قادت اليمنيين للاغتراب؛ بل تهكم على المغتربين، واتهمهم بالجهل، وجاء في مقدمته ما نصه: «نظرًا لما شوهد من تهافت الجاهلين على اقتحام الاغتراب عن أوطانهم، وركوبهم البحر إلى البلاد الأجنبية، وإقدامهم على ذلك إقدام الطامعين في الغنيمة، توهمًا بأنَّه في غير بلادهم تكثر الأرزاق، وما توهموه وظنوه هو الظن الكاذب، والرجاء الخائب».
 
وختم البيان مفرداته بمرسوم مُتوكلي، فيه أومر صريحه للمراكز الإمامية بمنع اليمنيين من الاغتراب، هذا نصه: «فلذلك كله، أصدرنا أمرنا الشريف بمنع ارتكاب أهل اليمن بحرًا لأجل التكسب، ومنعنا عن ذلك منعًا باتًا، وحررنا إليكم هذا لتفهموا من بجهتكم بما أمرنا به، ليصونوا أنفسهم من تعب السفر، وإرجاعهم إلى بلدانهم من السواحل، واهتموا بهذا غاية الاهتمام».
 
في رده على ذلك البيان، قال الكاتب التهامي عبيدالله محمد عبيد في مقالاٍ له، أنَّ هجرة اليمنيين سببها الظلم، وقدم نصيحته الصادقة للإمام يحيى بتأليف حكومة نظامية ذات مسؤوليات، وإدارة تفتيش على أعمال الحكام والعمال، وفند بالحجة الدامغة بعض فقرات البيان، وقال أنَّ الاغتراب لا يفسد الدين أو يضيع الأخلاق، مُستدلًا بقوله تعالى: «قل سيروا في الأرض»، وقوله تعالى: «فامشوا في مناكبها وكُلوا من رزقه»، أما في جزئية معرفة اتجاه القبلة، فقال أنَّه أيما يولي المسلم وجهه فثم وجه الله.
 
 
 
- حكمة يمانية

ذات صلة