عن وحدة اليمن وواحدية الثورة

12:00 2020/09/15

لأسباب معروفة ومفهومة، تنازل سياسيون يمنيون، أو قل تنكروا، للفكر القومي، وللفكر الاشتراكي، وللأممية، والكوسموبوليتية(المجتمع البشري الذي يقيم في وطن كبير واحد) التي كانوا يروجون لها في غيبوبة رشدهم، ويجهدون من أجل وضعها موضع النفاذ الناجز.
 
بعدما كانوا خصوما اشداء للشوفينية (الفني من أجل الوطن)، صاروا خصوما للوطن، مناطقيين، انعزاليين، ودعاة جهوية، لمجرد الحنق من النظام الحاكم، أو الاحساس المجهد تجاه عدن أو صنعاء، بما في ذلك صنعاء عبد ربه منصور هادي الجنوبي الذي يترأس اليوم جمهورية اليمن الموحد. قبل سنوات استمعت إلى المناضل الصبيحي أحمد عبد الله المجيدي، وهو يعبر عن أسفه حين يرى مناضلين ثوريين ووحدويين كبار، قد تحولوا إلى صغار، وانقلبوا على قضية مفروغ منها مثل وحدة اليمن أو واحدية الثورة اليمنية، حسب تعبيره. والمؤسف أيضا الذي خلف أولئك الكبار أغرار، نصيبهم من المعرفة ثقافة مناديل ورقية، لكنهم أمسوا ذوي الصوت الجهير في سوقنا.. أمسوا أصحاب الصوت العالي، وإن كان تأثير أصواتهم في المواطنين ضعيفا، أو معدوما في بعض الجهات، لكن قد يحدث تأثيره مع مرور الوقت، لا شك في ذلك، ومن ذا الذي يغفل تأثير الفراشة؟ فهي كائن صغير لا تعلق به أهميه، لكن تأثيره الضعيف يؤدي مع الاستمرار إلى تلقيح الشجرة. يميل الناس عادة إلى ما هو صدامي ومثير.. حتى لو جاء من مثقف مغمور أو سياسي فارغ الرأس.. في حقيقة تاريخية مثل وحدة اليمن، يستمع حملة ثقافة المناديل الورقية للسياسيين المجهدين الذين قد لا يفوقون مشايعيهم في السن أو الخبرة، أو المعرفة العلمية، لكن بالنسبة لمناضل ومثقف مجرب مثل أحمد عبد الله المجيدي، فأسهل تهمة يمكن أن يرمى بها أنه لا يمثل إلا نفسه، وقد يأتي مراهق سياسي ليصنفه شماليا. في مسألة تاريخية مثل وحدة اليمن، يتركون أساتذة ومفكرين ومؤرخين وشعراء يمنيين معاصرين مثل سلطان ناجي، عمر الجاوي، الدكتور صالح باصرة، محمد علي الأكوع الحوالي، لطفي جعفر أمان، الدكتور عبدالعزيز المقالح، فريد محمد بركات، عبد القادر محمد الكاف، الدكتور سلطان عزعزي، الدكتور حسين العمري، القرشي عبد الرحيم سلام، ناهيكم عن مثقفين عرب وأجانب معاصرين.. بله في العصرين الحديث والقديم! يتم الانصات لحملة ثقافة القشور والاحتجاج والغضب، عن اليمن والجنوب العربي، وعن اليمني والجنوبي، بينما الواقع التاريخي، والشواهد الحية ترينا أن هذا التقسيم لا وجود له إلا في مخيلات الغاضبين الحمقى، وأن الشعب الذي تجري محاولات لفرزه إلى صنفين، وعزل أحدهما عن الآخر عزلا تعسفيا، يؤكد أنه شعب واحد، شعب يمني، أكان في الجنوب أو في الشمال.. أفراد شعب واحد في تعاملاتهم اليومية، وفي تنقلاتهم وسكناهم، وحتى في ثقافتهم بشتى مظاهرها، من اللغة إلى الرداء، مرورا باللهجات والرقصات والمظاهر الاحتفالية، وحتى العصبية الوطنية، وبالتوكيد يوجد في كل مركب من هذه المركبات الثقافية تنوع، والتنوع مزية إيجابية، بل هو أمر طبيعي. تعرض النظام الجمهوري في صنعاء لتهديد خطر من قبل القوى الملكية بعد ثورة سبتمبر1962، فجاء لبوزة ومئات من اضرابه من أرياف ومدن الجنوب اليمني المحتل يدافعون عن النظام الجمهوري، وابلوا في صنعاء وفي حرض وفي حجة وفي الجوف، واستشهد بعض منهم في عملية خيانة بنقيل يسلح قبل أن يصلوا صنعاء.. القائد الأول لجبهة تحرير جنوب اليمن قحطان الشعبي، عين بعد ثورة سبتمبر وزير دولة في صنعاء لتنسيق عمليات الدعم لثوار 14 أكتوبر، وشماليون مثل عبد الفتاح اسماعيل، وراشد محمد ثابت، وغيرهما كانوا في مقدمة مناضلي الجبهة القومية، بل أن كادحا بسيطا مثل مهيوب علي غالب الشرعبي (اسمه الحركي عبود) أبلى حتى أستحق أن يكون مسئول العمليات العسكرية في الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني، وقد استشهد يوم 11 فبراير1967 عندما قنصه قانص بريطاني في مدينة الشيخ عثمان، وقد أطلقت حكومة الاستقلال اسمه على موقع عسكري في عدن تخليدا لذكراه، كما أن حكومة الاستقلال اتخذت من يوم استشهاده يوما وطنيا للاحتفاء السنوي بالشهداء. حتى عندما كان النظامان في صنعاء وعدن يتصارعان، كان صراعهما يدور في مضمار الصراع على الوحدة.. حكومة صنعاء تبنت موقفا رجعيا معاديا، تجاه حكومة الاستقلال في الجنوب، بذريعة عدم الانضمام لحكومة موحدة في صنعاء، وتبنت المعارضة الجنوبية ودعمتها ضد النظام اليساري في عدن، وبالمقابل احتضنت حكومة عدن معارضي حكومة صنعاء، وكان المبرر هو تحقيق الوحدة اليمنية.. اشتبك النظامان في نزاعين مسلحين دامين، أحدهما عام1972وآخرهما عام 1979 وكان كل منهم يستحضر دواعي تحقيق الوحدة اليمنية ويبر بها حربه.. المؤتمر الشعبي العام في صنعاء جعل الوحدة اليمنية من ضمن الحقائق الخمس في ميثاقه، وكذلك في برنامجه السياسية، وشعارا في مؤتمره العام الذي عقد عام 1988.. والتنظيم السياسي الموحد- الجبهة القومية، وهو الإئتلاف اليساري- القومي الذي حكم جنوب اليمن حتى العام 1978 كان شعاره: نضال من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ خطة التنمية وبناء حزب طليعي من طراز جديد، وفي أكتوبر من العام نفسه كان شعار المؤتمر الأول الذي تأسس فيه الحزب الاشتراكي اليمني: لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية، وظل الشعار الرسمي للحزب الحاكم حتى إعلان قيام الوحدة بين جمهوريتي الجنوب والشمال في مايو 1990. هذه وقفات سريعة، عن واحدية الثورة اليمنية، وعن الوحدة في مستواها الديمغرافي، ومستواها الجغرافي في هذا العصر، وهذه كلها غير مبتورة عن الماضي، بل هو أصلها وفصلها.. فوحدة اليمن كانت هي القاعدة عبر التاريخ، أما التشظي الى دولتين أو مجموعة دويلات في بعض المراحل التاريخية التي ساد فيها صراع سياسي حاد بين الجماعات السياسية، فقد كان ذلك التشظي هو الاستثناء، ففي عهد الرسول والخلفاء الراشدين كانت اليمن ولاية واحدة موحدة، وفي عهد دولة بني العباس لما استقل محمد بن زياد باليمن عن دولة بني العباس، حكم دولة يمنية واحدة كانت معظم مخاليفها تدين بالولاء للعاصمة زبيد، ومن ذا يجهل أن الدولة الصليحية بسطت نفوذها من جبلة إلى أجزاء واسعة من شمال وجنوب وغرب اليمن؟ ولما اقام بنو زريع دولتهم واتخذوا عدن عاصمة لها، كان الجوار الشمالي والشرقي تحت إدارتهم.. وكذلك كان الأمر في دولة بني رسول، والدولة الطاهرية، والدولة القاسمية التي حكم أحد أيمتها من ضوران في مأرب إلى سيئون في حضرموت.. بل أن المحتلين الأتراك لم يفرقوا بين شمال وجنوب، وكانت عسير مخلاف من مخاليف اليمن، وقبيل أن يرحل المحتلون الاتراك دعا الأغا التركي الإمام يحيى محمد حميد الدين إلى استلام لحج، فرفض ذلك، على الرغم من أنه كان يؤمن أن جنوب اليمن وشرقه جزء من الدولة اليمنية التي ورث حكم شمالها من المحتلين الاتراك المهزومين، لكنه قبل بالأمر الواقع، الذي خلفه وجود الاستعمارين التركي البريطاني.
 
*(المقالات التي تنشر تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع)