محمد الردمي يستذكر تفاصيل الأسبوع الأخير مع الزعيم: «زمن صالح»

  • الساحل الغربي، كتب/ محمد الردمي:
  • 09:31 2020/12/04

قبل استشهاد الزعيم بأسبوع، تقريباً، وتحديداً يوم الثلاثاء 10 ربيع أول الموافق 28 من نوفمبر 2017، توقف بسيارته وأمر باستدعائي، حيث كنت أعبر بوابة اللجنة الدائمة وبابتسامته الأبوية المعروفة سألني عن احوالي، ثم استفسر عن اذاعة محلية تبث منوعات غنائية يمنية، اعجبته وتساءل ما إذا كان بالإمكان شراؤها وان اقوم انا بادارتها، كانت بساطته المعهودة في الحديث تجعله اكثر قربا من الناس، وكنت اتذوق حديثه اكثر من تركيزي على الموضوع الذي يحدثني عنه.
 
اجبته بنعم، فطلب من مرافقيه استدعاء العميد طارق قائد حراسته، وحين جاء قال له: شوف محمد يجلس معاك ورتبوا لشراء الاذاعة وتصبح تابعة للمؤتمر!!
 
كانت المرة الأخيرة التي التقيت فيها بهذا الرجل الذي كان كوالدي اكثر من أي شيء آخر، ولم يكن منطقيا ان يموت بعد ستة ايام، غير ان لا منطق للموت في حدود ما يعلمه البشر!
 
كان انيقا كالعادة، وبالنظر إلى التوترات التي صاحبت الاحتفال بالمولد النبوي، وانتهت باغتياله، بدا لي مسترخيا ومطمئنا، يتحدث باريحية.
 
 
تلك اللحظة مهمة بالنسبة لي، فانا اتذكرها باستمرار، واظل ادقق في تفاصيلها مع نفسي على غير عادتي، اذ انني فيها كنت اتحدث واستمع لعلي عبدالله صالح، مؤسس الدولة اليمنية الحديثة، وصاحب ذلك التاريخ الصاخب والمبهر، وهذا الرجل كان سيموت شهيدا بعد ستة ايام!! أي انني بعد ستة ايام لن التقي به مرة اخرى! 
 
لاحقا، كنت اعود بمخيلتي إلى ذلك اللقاء، واحاول ان اكتشف أو الاحظ شيئا ما كان يمكن ان يوحي بان صالح سيموت بعد ايام، او انتبه لامر ربما يدل على ان ملحمة وطنية قادمة بعد ستة ايام، سيتوج بها صالح مسيرته الخالدة!
 
لا يتبدى لي شيء من ذلك، كان الزعيم بهيا كعادته، مشرقا، مفعما بالتفاؤل والسلام.
 
 
لم اكن لصيقا بالزعيم خلال سنوات خدمتي في الاعلام الحكومي، لكن الفرصة اتيحت لي بمرافقته له كصحفي اكثر من مرة، في زيارات رسمية قام بها إلى روسيا، والمانيا، والولايات المتحدة، وليبيا ومصر، ولبنان، وفي احداث العام 2011 رأيت الكثير من الفاسدين والمنافقين يتخلون عن الرجل، فانحزت لموقف البسطاء والطيبين، وبقيت معه، ورفضت الفوضى، واديت دورا صغيرا في الدفاع عن النظام والقانون والاستقرار قدر ما أتاحه لي مجال عملي.
 
في ذلك العام، وعقب جريمة تفجير جامع الرئاسة، وحين قرر الرئيس من مقر اقامته في الرياض حيث يتلقى العلاج، ان يظهر في التلفزيون لاول مرة بعد الحادث، تلقيت تكليفا من الوزير حسن اللوزي، رحمه الله، بتقديم خبر ان الرئيس سيلقي كلمة مهمة بعد قليل، كنت سعيدا وكل الزملاء بهذا الخبر، وبينما كنت اتجول في اروقة مبنى التلفزيون انتظارا لاستكمال استقبال الخطاب المتلفز المرسل من فريقنا الاعلامي في الرياض، دخلت غرفة استقبال هذه الصور التلفزيونية، ووقعت عيني على شاشة العرض، ورأيت وجه علي عبدالله صالح، كما لم أره من قبل لا انا ولا احد من الناس، اصابتني صدمة كبيرة، وسيطر علي ذهول مصحوب بغصة في حلقي، كنت كاني اشاهد ابي، رحمه الله، وقد احترق وجهه وتبدلت ملامحه بشكل لا يمكن تصوره حتى في خيال افلام السينما، اشتعل داخلي وجع عظيم، ورحت اتمتم دون شعور بلعن من تسبب بهذه الجريمة، ذهبت إلى الاستوديو لاكون وحيدا واتصلت للوزير وبصوت يغلب عليه الغضب والبكاء طلبت منه الا يسمح ببث خطاب الرئيس، أو ان يعفيني من امر تقديمه فاعصابي خارج السيطرة و...ولم استطع ان اكمل الحديث فاغلقت الهاتف، وانتقلت بسرعة ابحث عن مكان لا يراني فيه احد، دخلت مكتب مدير عام الاخبار واغلقت الباب، وانفجرت بنوبة بكاء لم اعرفها في نفسي حتى ذلك التاريخ اطلاقا، ثم تواصلت عبر تحويلة التلفزيون بالعميد طارق، طلبت منه الا يسمح ببث الخطاب، لكن دموعي منعتني من الكلام بهدوء، كنت اصرخ دون شعور بان بث الخطاب سيصدم الناس وسيشفي غليل الحاقدين، حاول طارق ان يشرح لي ويقنعني بان حالة الرئيس الان هي افضل بكثير من حالته بعد الحادث مباشرة، لكني لم استوعب، ولم استطع ان اكمل الحديث فاغلقت السماعة، فقد كنت ابكي بحرقة وغضب، لقد كنت انتحب، وفجأة رن تلفون المكتب، ورفعت السماعة، كان العميد صادق الاكوع، كلفه العميد طارق بالتواصل معي ومحاولة تهدأتي ومن ثم تفسير ضرورة بث الخطاب، لكن اعصابي كانت تالفة ولم احب ان يسمعني العميد الاكوع وانا ابكي بهذه الطريقة كثيرا، فانهيت الحديث معه بطريقة ما لا ادري كيف بدت لكني كنت في حالة انهيار حقيقية.
 
 
+ الحيلة: قائد ديسمبر
 
 
الشاهد في الأمر، ان لكل مواطن حكاية مختلفة مع علي عبدالله صالح، كان البسطاء يحبون الرئيس صالح، وفق مشاعر عفوية سليمة تماما من أي شائبة.
 
حين استشهد صالح في الرابع من ديسمبر، تبلدت مشاعري هذه المرة، لم استطع ان ابكي، اصبحت كالثلج باردا لا ارغب بالكلام، وربما اشغلت نفسي باسعاف زوجتي الثاني ام محمد التي انهارت بكاء وصراخا وعويلا حين سمعت الخبر، لم ارها على هذه الحالة الا حين توفي والدها رحمه الله، ظلت لاسابيع تنتحب، ومرضت، وفقدت رغبتها في الاكل والشرب وربما في الحياة، كان بيتي قريبا من شارع مجاهد المؤدي إلى الثنية حيث منزل الزعيم، وكانت ام محمد تسمع اصوات الانفجارات والمواجهات والاسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، وتتخيل ان كل ذلك يستهدف صالح وحيدا في بيته، ثم تسمع اصوات الغوغاء من الحوثيين في الشارع المجاور وهم يعززون انفسهم ويواصلون الاعتداء عل الزعيم في منزله، كانت تصيح دون شعور، وتقول اين الشعب الجبان يغيث الزعيم الذي افنى حياته من اجلهم.
 
يبدو ان شعوري بالعجز اصابني بالتبلد، لكن حزني كان كبيرا، غير اني علمت ان صالح قرر ان يموت واقفا، وقد مات شهيدا كما اراد.
 
كنت على يقين ان علي عبدالله صالح قاتل الموت في تلك الاحداث، ودافع عن تاريخه ببسالة ثم رحل شامخا، بعد ان رسم لليمنيين خارطة طريق نحو الحرية والكرامة.
 
وكما كانت حياته المليئة بالأحداث صاخبة، كان موته ايضا صاخبا، لقد افسد على القتلة فرحة انتصارهم الملوث بالحقد والخيانة، وافقدهم القدرة على تزييف حقائق استهدافهم لحياته، وطبيعة مؤامراتهم على اليمنيين.
 
حين اقدم عبدالملك الحوثي وجماعته وحلفاؤه على قتل صالح، كشف الله حقيقة قلوبهم المليئة بالغل والسوء، فاصبح الناس، كل الناس، يرونهم مجرد مجموعة من اللصوص وقطاع طريق، وقد اصبح ذلك وسما على وجوههم اينما ذهبوا.
 
 لم يكن صالح نبياً لكنهم كانوا شياطين، وقد اقترفوا بايديهم سبب زوالهم، ولن يستقروا يوما وهذا الشعب يغلي غضبا، هكذا تقول العدالة وقوانين الفيزياء.

 

ذات صلة