ملف - تعز.. القناصة (3) | قصة ثاني ضحايا قناصة الحوثي بتعز: أبٌ في طريقه إلى أولاده!

  • تعز، الساحل الغربي، تحقيق/ ضيف الله الصوفي:
  • 10:14 2021/09/10

روح قتيلة؛ لم تمُت!
قصة ثاني ضحايا القناصة: أب يُقنص في طريقه إلى أولاده!
المغامرة في خطوط النار تعني الموت
 "بعض الجرحى الذين شاركوا حق وحقيقي في الجبهات يتم تعمّد إهمالهم، والتمييز فيما بينهم.. الذي عنده وساطة يسافر والذي هو مسكين يرجموا به بلا علاج، بلا عمليات، بلا حقوق".
بنبرتي ألم وحزن يروي منصور لـ"الساحل الغربي" قصة قنصه ومعاناته:
"قنصونا وأنا جازع طريق.. طبيعي مدني عائد إلى بيتي"
 
يقطع الطرقات الوعرة، يمرُّ بهدوء، كي يصل إلى أولاده سالماً؛ لكن هذا الوصول يبقى مُهدداً بشخص يختبئ في مكان ما، يتربص بك، ينتظر وصولك، إما ليُقرِّب أجلك، أو يجعلك تتعثر، تتوسل، تطلب النجدة بعد أن يكون قد أطلق رصاصته على أحد أطرافك ليزيد في رصيده واقعة قنص جديدة.. 
 
نجاة مَن يمر مِن أمام ساحة القناص التي يُطل عليها تعد شبه مُستحيلة، فقانون قناصي الحوثي أنت مقتول سواءً ظهرت في طريق أو شارع أو مدخل لقرية ما.. المغامرة في مناطق التماس هذه، عادة تكون نتائجها مُحزنة.. تجد الموت واقفاً بانتظار كل من يختاره القناص فريسة له.
 
قد يخاطر أحدهم بالمرور مُسرعاً في دراجة نارية بغرض الوصول إلى أهله في حي مُحاط برصاصات القناص ولا يفلح في الوصول؛ بل يعود إما جثة محمولة على الأكتاف، أو جسماً هامداً في الفراش بعينين مفتوحتين.. لا خيار ثالث هنا.. أنت في تعز.
 
ملف القناصة يبدو شائكاً ومُعقداً، والبحث عن قصص الضحايا مُرتبة تبعاً لتاريخ قنصها يعد شاقاً، خصوصاً في مدينة تفتقر لجهة راصدة تكون قد وثقت كل قصة تعرضت للقنص بتفاصيلها.. وبالرغم من وجود مكتب حكومي لحقوق الإنسان إلا أن مديره، علي سرحان، تنصّل من إعطائنا معلومات عن القصص التي نبحث عنها، ربما لأن كشوفات مكتبه تخلو مما نبحث وراءه.
 
ولأن مهمة الصحفي تقتضي في البحث عن بدائل، فقد تنقلنا بدءاً من مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان، إلى مكتب رابطة أسر ضحايا القنص، وصولاً إلى مكتب اللجنة الوطنية لرصد انتهاكات حقوق الإنسان.. باحثين عن ثاني ضحايا القنص في المدينة، وما تلاها من القصص.
 
اقرأ أيضا :
 
وبعد بحث دام لأكثر من أسبوعين في قاعدة البيانات التي وثقتها اللجنة.. قالتْ تهاني العمري، مسؤولة في مكتب اللجنة الوطنية، إن "منصور محمد، أحد أبناء مديرية جبل حبشي، هو ثاني شخص تعرض للقنص بالنسبة للمدينة، وأول حادثة وقعت على مُستوى المُديرية".
 
ستشعر بالألم والحزن وأنت تسمع منصور، أربعيني العمر، يروي قصة قنصه لـ"الساحل الغربي" بروح قتيلة لكنها لم تمت: "قنصونا وأنا جازع طريق.. طبيعي مدني لا مُقاتل ولا مُشارك في الجبهات.. فقط كنت عائد أنا وابني من المدينة فوق الموتور وماشين بالخط عند مدخل قريتنا "الأشعب" فجأة أصابتني طلقة رشاش 12/7 في رجلي اليسرى".
 
ويضيف: "القناص كان يريد يقنص الركبة عشان يتعطل ساقي ويبتروها.. لكن لطف الله جاءت الطلقة في منطقة أعلى بقليل من مفصل الركبة.. لما دخلت ما حسيتها بعكس لما خرجت، انفجرت في فخذي وخرجت إلى الأرض وانفجرت مرة أخرى.. هذه طلقة رشاش مش بسيطة".
 
 
بنفس متقطع تابع حديثه: "سقطتُ من فوق الموتور والدم يخرج بشكل قوي.. دوخت وما شعرت بنفسي".. بلمح البصر صار الرجل ملقياً على الأرض، يتلوى ألماً، وغير قادر على الحركة.
 
من جهته يقول فكري منصور، الذي كان بجوار والده: "سحبت أبي إلى خلف بيت كانت قريبة مننا وربطت له محل الإصابة عشان أمنع نزيف الدم.. اختبأنا عن تلك البيت لمدة ساعة ونصف حتى وصل مقاتلو المقاومة.. كان عندهم مُصفحة في مُؤخرة الجبهة.. أدخلوها واشتبكوا مع الحوثيين.. ما قصّروا أسعفوا أبي وهو مُغمى عليه".
 
تسارعت الأحداث من القنص إلى الاختباء إلى الاشتباك انتهاءً بإسعاف الضحية؛ الضحية الغائب عن الوعي، ربما لأنه فقد الكثير من الدماء.. بهذه الحالة نُقل منصور إلى أحد مُستشفيات المدينة.
 
يوم كابوس في ذاكرة منصور
قرية "الأشعب".. قنص، تفجير منازل، تهجير قسري
قناص "المُنعم".. لا يفارق بندقيته مُستمراً بالقنص
 
كان منصور يعود إلى منزله كل يوم جمعة، بينما يقضي بقية أيام الأسبوع في المدينة، للعمل في بوفية "المنصور" التابعة له، والتي يحركها ويدير العمل فيها.. هكذا أجبرته الحياة، يوماً مع زوجته وأولاده وستة أيام في طلب الرزق.. 
 
يوم السابع من أكتوبر العام 2015م وكما تجري العادة قرر الرجل العودة إلى بيته، لكنه لم يصل، نزولاً عند حكم القدر، فقد تحولت جمعته إلى يوم مشؤوم وكابوس في حياته، حد تعبيره.
 
 
يقول: "كنت أمشي بأمان لما كانت فرق الصعاليك مسيطرة على المنطقة.. في ذلك اليوم كانت قوات الصعاليك قد انسحبت.. وبدأ الحوثيون بالقنص على أهالي القرية، ومنعوا بقوة الرصاص أي شخص يحاول الدخول.. يوم مليئ بالشؤم والخوف والألم".
 
قرية "الأشعب" الواقعة في منطقة "تبيشعة" بمديرية "جبل حبشي"، القرية المُحاصرة بقناصة الحوثي.. نساء يرعين أغنامهن، وأخريات يجلبن الحشيش والزرع، أصحاب الدرجات النارية، ومواطنون داخل منازلهم.. العديد من وقائع القنص حدثت في هذه القرية منهم من قنص في الصدر ومنهم في الرأس.. منهم من توفي، ومنهم من بقي على قيد الحياة.
 
يؤكد منصور: "تقريباً 10 أشخاص من أهالي القرية قُنصوا في نفس اليوم الذي قُنصت فيها.. بعد أسبوع عزّلوا بأصحاب القرية.. ثم نزلوا إلى القرية وفجّروا حوالي 8 منازل بتهمة أنهم مُخبرين ويقاتلون مع المقاومة".
 
مُسلسل طويل من جرائم التهجير والتشريد القسري الذي مارسته ميليشيا الحوثي، وما زالت تُمارسه، بحق الكثير من المدنيين في هذه القرية الواقعة تحت خط النار.
 
تبة المُنعم، التبة السوداء، تبة الـ 12، وتبة قرن التبيع.. كلها أسماء لمواقع عسكرية تابعة للحوثيين تطل على قرية الأشعب، ووفقاً للمعلومات التي توصلنا إليها، فإن قناصاً ثابتاً (ليلي، ونهاري) يتمركز في تبة المُنعم، مُتخذاً له وكر الثعلب كما يطلقون عليه، أي خندق داخل الجبل على ثلاثة مداخل.. وتفيد المعلومات أنه يتواجد في المواقع الأخرى قناصون حوثيون من أبناء محافظة حجة، وهم أكثر وحشية ودموية.
 
الضحية والمُستشفيات... جزَّارون برتبة أطباء!!
أربعة آلاف دولار على كل عملية جراحية لأي جريح
 
يتسابقون في بتر أطراف أي مُصاب
 
كثيرون هم الذين قُتلوا قنصاً برصاص الميليشيا، وكثيرون هم الذين سقطوا جرحى وفقدوا أطرافهم في هذه الحرب، لكنّ قليلين هم الذين تلقوا العلاج على نفقة الدولة.. ناهيك عن المُستشفيات التي أغلقت أبوابها بوجه غالبية الُمصابين.
يشرح منصور قصة إسعافه: "نقلونا إلى مُستشفى البريهي، لكن إدارة المُستشفى رفضت استقبالي.. وبعد وساطة أحد قادة المقاومة دخلت ووجدت نفسي بين أطباء كأنهم جزارين.. قرروا بتر ساقي، لما سمعتهم يتشاوروا بإجراء عملية بتر صحتُ بكل صوتي.. يشتوا يقطعوها من أجل الحصول على المال من مركز الملك سلمان".
 
 
آنذاك، وبحسب المعلومات، كانت المُستشفيات (الثورة، البريهي، والصفوة) تتقاضى أربعة آلاف دولار على كل عملية جراحية تقوم بها لأي جريح مدني أو عسكري، بما في ذلك عمليات بتر الأطراف.. الأمر الذي جعل الأطباء يتسابقون على بتر أي مُصاب يصل إليهم.
 
وأكد مصدر طبي في مُستشفى البريهي لـ"الساحل الغربي"، أن السعودية كانت تتولى دفع تكاليف هذه العمليات لتلك المستشفيات وما زالت تتعاقد معهم حتى اليوم.. لقد حصلت المستشفيات الخاصة على أمول كثيرة بالرغم من أنها قامت بالبتر لا التطبيب والعلاج.
 
وأنت تتبع تفاصيل قصة منصور ستشعر بصدمة كبيرة، وحزن أكبر.. تشعر بالصدمة حيال ما تعرض له من رفض بداية الأمر، ثم فجيعته ببتر ساقه، وبالحزن على ما عاناه بعد رفضه عملية البتر وانتقاله إلى مُستشفى الحكمة الخاص.
 
يتذكر الجريح: "أسعفنا ابني إلى مُستشفى الحكمة.. عملوا لي إسعافات أولية وعملية جراحية، ومسامير خارجية.. بقيت عندهم حوالي أسبوع.. طلعت فاتورة الحساب 600 ألف، دفعتها، لا أحد استقبلنا ولا أحد تعاون معي". واستطرد الرجل: "بعد أسبوعين قيّحت العملية، ورجعنا للخسارة من البداية".
 
تنهد بعمق، ثم أضاف: "ذهبت إلى الدكتور مالك النقيب.. قدّر حالتي والخسارة، وعمل لي إرسالية إلى مُستشفى الصفوة.. وهناك اشترطوا عليّ أن أدفع قيمة العلاجات وكل المُستلزمات.. فقط كانت العملية والرقود بالمجان".. "كنت بدأت أتعافى، لكن العظم انكسر مرة أخرى.. وعملت عملية ثانية في نفس المستشفى، والحمد لله كما ترى".
 
يبدو منصور اليوم ممتناً لاتخاذه قرار رفض بتر ساقه. يعتبر نفسه محظوظاً، رغم الخذلان، وعدم تماثله حتى اليوم للشفاء بصورة نهائية، حيث لا يزال يتعالج ويتابع حالته عند الأطباء.. وبقدر فرحته ببقاء ساقه، يبقى ألمه ووجعه المستمر.
 
يلفت الرجل في حديثه: "شوف رجلي الآن كيف هي مُتورمة (أي كبيرة) فيها احتقان سوائل.. والصفيحة مع المسامير عادها فوق العظم.. يحتاج إلى عملية لإخراجهم.. بتكون العملية الرابعة، خسارة وتعب". معاناة لا تنتهي.
 
خذلان: الحياة مع الأثر.. ألم لا ينتهي
 
"لا عالجونا، ولا سفَّرُونا الخارج.. تعالجت على حسابي". مفردات قالها منصور بصوت فيه من الخذلان والتعب ما يكفي.. ساق تعطل، عمليات أجريت، تكاليف باهظة، توقف مصدر دخله الوحيد "البوفية"، انقطاعه لأكثر من سنتين عن العمل.. أمور عدة ضاعفت من حجم مُعاناته وخسارته.
 
ومع هذا يقول: "أنا ساكت لأننا أرى أولوية الاهتمام يجب أن يكون للجرحى الذين شاركوا في الحرب.. قد عالجت نفسي وعلى حسابي وربك كريم". هكذا يقدّم غيره من المُتضررين على نفسه في الأحقية بالحصول على العلاج والاهتمام.. إيثار في زمن الحرب، إنه لنادر، ونادر جداً.
 
ستة أعوام والجريح يتردد بساقه عند الأطباء وفي الصيدليات وما زال.. بدون أدنى مساعدة أو التفاتة من جهة رسمية، كونه واحداً من ضحايا هذه الحرب.. حاله كحال الكثير من الجرحى الذين تعرضوا لمسلسل طويل من الإهمال والتمييز والمحسوبية.
 
 
وبحسب الجريح: "بعض الجرحى الذين شاركوا حق وحقيقي في الجبهات يتم تعمّد إهمالهم، والتمييز فيما بينهم.. الذي عنده وساطة يسافر والذي هو مسكين يرجموا به بلا علاج، بلا عمليات، بلا حقوق".
 
أن تحيا مع الأثر.. فذلك هو الألم الحقيقي.. كلما حاول منصور تناسي الحادثة وجد آثارها منحوتة بإصرار القناص على افتراسه، وبمحاولات الأطباء لإنقاذه.. كل علامة رُسمت على ساقه، وكل عملية جراحية أُجريت له ستبقى تُذَكره بالفصل الأليم من حياته.. تلك الجراح التي وثقتها الصور نستطيع إيجادها اليوم في عينيه الدامعتين.
 
سُرقت أحلامه وتوقف مصدر رزقه عند تلك الطلقة التي أطلقها القناص على ساقه.. كيف لا يهزم وهو الرجل الذي اعتاد على مزج الفواكه وإخراج العصائر الطازجة وتقديمها لزبائنه -الناس الذين يترددون على بوفيته- صار من بعد ذلك اليوم لا يقوى على فعل شيء.. مُنهزماً يجر ساقه خلفه بصعوبة وكأنه يجرُّ جبلاً.. ما كل هذا يزول وينمحي والصور توضح ما عاناه في تلك الفترة..
 
ندوب واضحة تركتها الميليشيا في قلب زوجة الرجل، والتي ظلت تدمع ليل نهار بجانب زوجها المُصاب، وأولاده التسعة الذين أشفقوا على حال أبيهم وهو يتجرع مرارة الجراح..
 
ضحايا كثيرون ومجرم واحد، ميليشيا الحوثي.. المئات من القصص الحزينة نحتها قناصو الحوثي بالرصاص التي لا تقتل واحداً فحسب، بل تقتل وتجرح قلوب أهالي كل ضحية. ويبقى الأثر الموجع يُدمي فؤاد السامع، وعين الكاتب والقارئ.

ذات صلة