الشهيد جمال جميل رئيس الأحرار (3) : بداية التململ وترتيبات الخلاص

  • يحيى حمران
  • 07:48 2021/10/01

باشرت البعثة العراقية عقب وصولها إلى صنعاء، وكان الرئيس جمال جميل أكثرهم حماسا ونشاطا، واندمج أعضاؤها مع الطلاب والعساكر وعموم المجتمع اليمني بعدما هالهم ما لحظوا من انعدام مقومات الجيش النظامي وضحالة المرتب مقارنة بجيوش الدول الاخرى، فعملوا على تكوين عدة فصائل منها فصيل المدفعية الذي كان شهيدنا جمال مشرفا عليه.
 
تزوج ثلاثة من أعضاء البعثة بيمنيات، وكان منهم الشهيد جمال جميل الذي تزوج من الآنسة سميحة ابنه آمر المدفعية اسماعيل بك آغا بعد وصوله الى صنعاء بفترة وجيزة، وأنجبت له الابن الأكبر جميل في شهر ديسمبر 1941، ثم أنجبت محمد في أغسطس 1943، فيصل (توفى صغيرا) وسميرة ولدت في يناير 1948.
 
 
عاد أفراد البعثة الى العراق بعد أربع سنوات في اليمن، وبقى الرئيس جمال جميل بطلب من الإمام الذي بُهر بنشاطه وتفانيه، وكثر اهتمامه ونُصحه وحرصه وتطلعاته الى بناء جيش نظامي قوي ينافس جيوش دول المنطقة. 
 
وقد وافقت حكومة العراق على بقاء النقيب جمال ظنا بأنها قد تخلصت من مشاغب طال ما أقض مضاجع العابثين من أجل كرامة شعبه، فاستعجلت إحالته إلى التقاعد المبكر ولم يتجاوز عمر الـ 36 عام، وهي لا تعلم أيّ عظيمٍ من عظماء الرجال فرطت فيه.
 
مآسٍ ولا من يواسي
 
كانت اتصالاته في بداية الأمر مقتصرة على طلابه بمختلف رتبهم العسكرية، فكان يهتم بزيارتهم ويحرص على مشاركتهم أفراحهم ويقف إلى جانبهم إذا أصابهم طارئ لم يحتسبوا له حسبة وكان يواسيهم في آلامهم وأحزانهم، وكان يتألم لحال اليمن وما يعانيه الشعب من جوع وفقر وأمراض انتشرت في تلك المرحلة وحصدت الكثير من الأطفال والنساء وكبار السن، متزامنة مع محنة القحط والمجاعة الشديدة التي أصابت البلاد ولم تتحرك لها ضمائر الإمام المستبد أو ترق لها قلوب أبنائه السيوف الذين كانوا يكنزون الحبوب في المدافن دون رأفة بجائع، متمثلين قول والدهم الشحيح عندما راجعه عقلاء صنعاء وأعيانها كي يتصدق على المعدمين خشية موتهم فقال متبجحا "من مات (من الجوع) فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق"!!
 
أي نوع من الحكام بل من المخلوقات هؤلاء! حتى الذئاب والحيوانات المفترسة إذا حظي أحدها بفريسة فإن وجهه لا يتمعر من انضمام أبناء جنسه عندما يشاركونه الوليمة كوجه الإمام حين أظهر دمامة روحه في تجاعيد وجهه!
 
بداية التململ
 
أشرف الشهيد على تشكيل أول فوج مدفعي نموذجي، وعمل على تنظيم المدرسة الحربية وإصلاحها، وكان مدرسا بارعا وكفوا ومتمكنا فيها إلى جانب عمله كمسؤولا عن الجيش الدفاعي، وساهم بكل تفانٍ في تنظيم مدرسة المخابرة "الإشارة"، وأسهم بشكل بناء في إعادة تنظيم وتسليح الجيش بالأساليب الحديثة حسب تجاوب الامام في ذلك الزمن.
 
وكان الرئيس الشهيد جمال جميل أكثر المنتقدين والمتذمرين من أحوال الجيش حتى في وجه الطاغية يحيى وأبنائه دون مواربة او تلكؤ، وكان له موقف شجاع بعد عودة ما يسمى السيف عبدالله بن الإمام يحيى الذي ابتعثه أبوه الى أمريكا لتوقيع اتفاقية تعاون في عام 1945. 
 
كان عبدالله ابن الطاغية يحيى قد تأثر وتشبع بفكر وإدارة أمريكا، فأقام له والده حفل استقيال لسماع مقترحاته التي جاء بها أمام الحضور وهم كبار المسؤولين والمثقفين والتجار، فأدلى كلٌّ بما لديه تعقيبا على تلك المقترحات التي لا تتعدى أطماع الآسرة، وقد غضب البعض وابتهج آخرون وقيلت القصائد وتناثر المديح والدعاء للإمام والسيوف، وعندما وصلت دفة الحديث عند الرئيس جمال جميل خاطب عبدالله قاصدا اباه المستبد من خلفه قائلا "منذ سنين وأنتم تزورون دولا كبيرة وصغيرة غنية وفقيرة.. أسالكم بالله هل رأيتم جيشا أسوأ حالا من الجيش اليمني، هذا الجيش هو الذي سيحميكم ويحمي الأمة، هل يرضيكم هذا الكلام؟!".
 
وأمام هذه الكلمات الصريحة من الرئيس الشهيد تلكأ نجل الطاغية كعصا نخرتها دودة الأرض ولم ينبس ببنت شفة، فكان رد الطاغية يحيى في اليوم الثاني برسالة يقول فيها  "إلى الرئيس جمال جميل عافاه الله. لقد ساءنا ما بلغنا من خطبتك أمس في الجيش فإنها لم تكن حسنة، إن ما ذكرتموه غير صحيح".
 
لم يكن الإمام الخرف يخجل وهو يعلم أنه يكذب أمام مؤسس وكبير مدربين الجيش النظامي قادم من دولة أخرى تحترم النظام وتقدس العلم وأن كذبته المكشوفة لن تكون إلا وبالا عليه.
 
ترتيبات الخلاص
 
لقد اندمج جمالنا الشهيد اندماجا كليا مع الأحرار من التنويريين والعلماء والشعراء والتجار والمشائخ والمجتمع اليمني حتى أحبه واحترمه الجميع وقدروا جزالة أرائه، فخلق بذلك الاندماج، الأجواء المناسبة للثورة في أوساط طلابه قبل أن يلتحق بصف الأحرار الذين يخوضون أشرس المعارك اليومية مع الطاغية منذ سنين، ومن وسط المدينة التي خُيل له أنه متربع على رؤوس سكانها بالقهر.
 
منذ أن تناقش الأحرار مع شهيدنا وخبروا صلابته وحنكته وعدم تهوره وعلموا ماضيه في اللحظات الحرجة، أصبحوا يعاملونه قائدا للجانب العسكري في نضالهم، ويتشاورون معه في كل صغيرة وكبيرة عبر بعض منهم، فقد رفض حضور اجتماعات بيت الوزير خاصة كي لا يلفت الأنظار والشكوك اليه، وبقي يعد العدة وهو قائد الجند الأول، فيما كان العزي السنيدار والمطاع والخادم غالب وآل السياغي وعبدالسلام صبرة وغيرهم كثير، يستقبلون المنشورات والصحف القادمة من عدن وتعز وإب حيث الزبيري والنعمان والإرياني، وكان يشرف على خط سيرها وإيصالها القاضي الأكوع الحوالي ومن إلى جانبهم جميعا من الرجال.
 
لقد أسهم الرئيس الشهيد جمال جميل مع رفاقه الأحرار في خلق نوع من التذمر والتطلع إلى أوضاع أفضل في أوساط مجتمع يفكر جاهلهم وعالمهم أن الإمام هو ظل الله في الارض، وأنهم بدونه لن يدخلوا الجنة، ولن ينجوا من الهلاك في دنياهم وآخرتهم ان عصوه، معتبرين أن ما يقترفه الإمام من تسلط وتعنت وإذلال في حقهم نوع من أنواع العبادات التي يتوجب عليهم شكر الله عليها.
 
وإزاء هذه التصورات الخاطئة لم يألُ الأحرار جهدا  في تفتيت تلك الصورة المرسومة بريشة الكهنوت المشوشة وتعريتها في أذهان الطلاب والعسكر ومن استطاعوا من أبناء المجتمع، حتى أن قبائل من خولان ومناطق قريبة من صنعاء تاثروا بتلك المنشورات ومحتويات الصحف ودخلوا لمناصحة الطاغية علانية أمام الجميع، فخاف الطاغية وارتعد وحسب للحظة ألف حساب وسجن بعض الأحرار الذين خرجوا بعد ذلك. وقد ازداد الوعي فعملوا على صياغة دستور جديد وحكومة أخرى كادت تكون الكارثة عندما تسربت نسخ منها إلى يد الطاغية أحمد في تعز.
 
يتبع..
 

ذات صلة