إب 100 عام مقاومة (3-3): انتفاضات حبيش والعدين وبعدان.. و" يا حدا يا خيرة الله عليكم"

  • بلال الطيب
  • 10:07 2022/11/26

.. وعن أحوال القوات الإمامية المُحاصَرة في تلك المنطقة، قال ذات المُؤرخ: «وكان الأمير هو أول من وصل إلى المُحاصَرين في دار الحكومة، وعلى رأسهم العلامة عبدالله بن قاسم، شقيق سيف الإسلام أحمد بن قاسم، فأطلق سراحهم بنفسه، واحتل مواقع المُتمردين بعد أنْ أجلى العقاب إلى ثلاثة دور خلف دار الحكومة، وتحاصر فيها».

إقرأ أيضاً:
- إب 100 عام مقاومة... دعم أهالي العدين لثوار حبيش في "الانتفاضة العُقابية" 1919 (2)
- إب 100 عام مقاومة... "الانتفاضة العُقابية" في حُبيش لمواجهة التوغل الإمامي (1)

صمد الشيخ العقاب في تلك الدور المُشرفة – حسب ذات الـمًؤرخ – لمدة ثلاثة أيام، وفَرض حصارًا جزئيًا على الأمير علي الوزير؛ الأمر الذي أنهك الأخير وقواته، خاصة وأنَّ ما يصلهم من الطعام كان قليلًا جدًا، وعن ذلك قال المـُؤرخ مُطهر: «استغنى المجاهدون بما وصل إليهم من ذلك – يقصد الطعام – فانتظم أمرهم، وكان ذلك من العناية الإلهية بالجند الإمامي، وبركة من بركات مولانا الإمام، التي ما زالت عن طور التجلي للأعين في كل واقعة ومعركة، فكم سرد الواضعون أفرادها، وأطال المشاهدون تعدادها، حتى أنك لا ترى جنديًا أو أميرًا إلا وهو يقول: لولا سعادة مولانا الإمام وبركاته، لما تم شيء من الظفر، ولا حصل من النصر ما يذكر»!

وكما كان وصول الطعام إلى القوات الإمامية مُكلفًا، كان قضاء الحاجة مُكلفًا أيضًا، وكان الأمير علي الوزير – كما أفاد ابن أخيه – يَحصر نفسه من الفجر إلى العِشاء؛ لأنَّ دورة مياه دار الحكومة واقعة في السطح، وكان ذلك السطح مُواجهًا للدور الثلاثة التي تحصن بها الثوار، ويقع أسفلها.

وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله المُؤرخ أحمد الوزير: «واستمرت المناوشة بينهم وبين الجيش طيلة تلك الفترة، ولم يتمكن بعض رجال الجيش الذين هاجموهم من الاستيلاء على تلك الأماكن، فدعا الأمير الشيخ محمد عبدالله الصوفي، وألزمه بفتح تلك الدور المحصنة والمبنية بالحجارة، فاستدعى الصوفي أصحابه، فتلكؤوا بادئ الأمر، فصاح فيهم، وكشف مُؤخرته، كعادة القبائل لاستثارة أصحابهم، وكر وحده مُنفردًا، فتبعه رجال خولان كلهم، ففتح الله على أيديهم ما كاد يستعصي».

وعلى خلاف مُؤرخي الإمامة الذين وثقوا لأحداث تلك الانتفاضة، كـ مُطهر، والدولة، وزبارة، اعترف ذات المُؤرخ بوجود ضحايا في الجانب الإمامي، وقال مُهونًا: «وقد كانت الخسائر بين المُتمردين كبيرة، كما كان بين جيش الأمير من الإصابات ما يقارب خسائر المُتمردين».

وفي ذات السياق الملحمي، تفيد الذاكرة الشفهية أنَّ معركة معيط، وهي قرية قريبة من مركز الناحية (ظَلمة)، كانت آخر المعارك الفاصلة بين القوات الإمامية والثوار، لجأ الأخيرون خلالها، وبعد أنْ نفدت ذخائرئهم، إلى استعمال السلاح الأبيض؛ الأمر الذي أدي لاندحارهم، ومن ثم هزيمتهم.

أسلحة بيضاء
أسلحة بيضاء

تدمير مُمنهج

ثمة مثل شعبي دارج يقول: «ما تكسر الحجر إلا أختها»، وهو ما عمل عليه الأمير علي الوزير حين استعصت عليه حُبيش، وبمعنى أصح باقي مناطق حُبيش، استعان – كما أفاد المؤرخ مُطهر – بالشيخين حمود عبدالرب ومحمد عبدالوهاب محمد، اللذين وقفا بعد أنْ مَالت الكفة لصالح الإماميين ضد الشيخ العقاب، وتنكرا للجوار، وللعيش والملح، وساهما وبعض رعيتهما في إذلال الثوار، وقد كانت لهما مهمة احتلال عزلة نقيل العقاب، المجاورة للعدين، والتضييق على سُكانها، والاستيلاء على منزل الثائر محمد عايض، وقد كوفئ الشيخ حمود بأنْ ولي عمالة العدين، شلف تحديدًا، فيما كانت عمالة حُبيش من نصيب الآخر.

إلى ذلك أشارت إحدى الوثائق البريطانية، نقلًا عن الشيخ محمد مقبل الصراري، أنَّ القوات الإمامية في حُبيش لاقت مُقاومة قوية، إلا أنَّ خيانة الشيخ حمود عبدالرب، وتسليمة تلك القوات بعض الحصون التي كان يملكها، أدت إلى هزيمة الثوار.

وتعقيبًا على الروايتين السابق ذكرهما، قال الدكتور نبيل عبدالرب – حفيد الشيخ حمود عبدالرب – إنَّ انتفاضة حبيش على أهميتها لم تكن أخذت تنسيقا مُنظمًا مع بقية مشايخ إب وتعز، وإنْ اعتبرها الجميع خط الدفاع الأول لاستقلال المناطق الوسطى، وأضاف مُدافعًا عن جدة: «ما حدث لم يكن خيانة؛ فالتجاور والتداخل الجغرافي والقبلي بين مناطق العدين وحُبيش، وخصوصًا الواقعة تحت نفوذ الشيخين حمود عبدالرب سنان والعقاب، بما فيها بني عواض، والوادي، وحرد، جعلت من الأخيرة عمقًا ومركز إمداد لانتفاضة حُبيش، إلا أنَّ تحول الموقف عسكريًا في مُرتفعات حُبيش المُـطلة على مناطق حمود عبدالرب أدت به إلى التراجع عن دعمه للثوار».

إلى ذلك، وبالتزامن مع المُواجهات الأخيرة في حُبيش، عقد مشايخ تعز وإب مُؤتمرًا في مدينة القاعدة، وقد جاءت إشارة المُؤرخ مطهر إليه عابرة، وقال أنَّه لم ينتظم لأولئك المشايخ أمرٌ ينافي المصالح الإمامية، وأشارت في المُقابل وثيقة بريطانية إلى نجاح ذلك المؤتمر، وأنَّ المُجتمعين اختاروا الشيخ محمد ناصر مُقبل رئيسًا لهم؛ لما يمتلكه من أسلحة تركية تُمكنه من مُقاومة الزحف الإمامي.

ولو تتبعنا سُلوكيات أولئك المشايخ حينها، لوجدنا أنَّ رواية المُؤرخ مطهر هي الأقرب للحقيقة، وهي الرواية التي أكدها المُؤرخ محمد بن علي الأكوع بقوله: «ومن جهة أخرى خذلهم – أي ثوار حُبيش – مَشايخ اللواء، فلم يواصلوا إمداداتهم من رجال، وعتاد، ومعونة، ولا شيئًا مما تعهدوا به، كما هي طبيعة فيهم»

كما كانت للخولانيين الساكنين منذ عقود في ناحية حُبيش النصيب الأكبر في تلك الانتكاسة، وهي حقيقة لم يذكرها المُؤرخان عبدالكريم مُطهر، وأحمد الوزير، وأكدها المُؤرخ محمد الأكوع بقوله: «وكادت تحل الهزيمة بالوزير؛ لولا إمدادات سريعة جاءت من صنعاء، وحصول خيانة من الخولانيين الساكنين جبل حبيش، فافتعلوا هزيمة مُصطنعة كما هي عادتهم».

أدت تلك الانتكاسات إلى انكسار الثوار، وهزيمتهم، وهروب قائدهم، وذلك في أواخر مايو من العام 1919م، وبعد خمسة أشهر من المقاومة، وقيل شهرين، والقول الأخير هو الأرجح، استبيحت بعدها بلادهم، وعاث فيها الإماميون قتلًا، ونهبًا، وخرابًا، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وتم للمجاهدين اجتياز ما مسافته نحو أربع ساعات فلكية من البلاد المخالفة، وقتل منهم كثيرون، وأسر أيضًا منهم جماعة، وأخذت رؤوس بعض القتلى، وفرَّ الباغي محمد عايض العقاب».

ثم يمضي المُؤرخ عبدالكريم مُطهر في نقلة لتلك الجرائم المُروعة، مزهوًا بانتصار الإماميين، وبما أخذوه من غنائم، إلى أنْ قال: «وغنم المجاهدون منهم غنائم واسعة، وكانت وقعة عظمى، أذهبت أحلام المترددين، وشفت قلب الدين، وقرت بها عيون المؤمنين، وأيقظت ذوي الغفلة من رقدة تقاعدهم عن الموالاة الصادقة، واهتز لها اليمن الأسفل من جميع جهاته»!

أما المُؤرخ حمود الدولة، فقد تعمق هو الآخر حول هذه الجزئية، وبالغ واستطرد، وتشفى وتلذذ، وقال مُتباهيًا: «غنموا – أي الإماميين – فيها جواهر الأموال، وأسروا فيها صناديد الرجال، وأما القتلى والغنائم فلا يوجد لها وصف ولا حصر، ولا يوقف على قدر».

عمد الأمير علي الوزير بعد إخماده لتلك الانتفاضة إلى أخذ رهائن الطاعة، وحرق وتخريب حصون ومنازل الثوار، كحصن عيال إبراهيم، وداري الجأبيب وعميقة التابعين للشيخ العقاب، ودار الشيخ الحداد، وغيرها الكثير، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وتقدم المجاهدون.. وأحرقوا أكثر الدور، وانتهبوها».

وقال المُؤرخ الدولة: «والتهبت بالنار معاقل الأشرار، وهدمت لهم كل دار، وتفرقت أجزاؤوهم، وتبددت أشلاؤوهم، ومزقتهم أيدي العقوبة، واستأصلتهم مُسببات الحوبة، وطار عقابهم منتوف الذنب والقوادم، مخطوم النواهض والقوائم، وقد وسمه الله على الخرطوم، وسلب لبه، فأصبح صفر اليدين، ماله مسلوب، وبيته مهدوم»!

مكث الأمير علي الوزير في ظَلْمَة مُدة، وإليه وفد عدد من مشايخ تعز وإب، وقد «أظهروا الانقياد والندم على ما كان يبدر منهم من الميل إلى العناد»، حسب توصيف المُؤرخ مُطهر، أما أهالي إب فقد انفردوا – كما أشار ذات المُؤرخ – بـــ «الثبات على الموالاة، وإعانة المجاهدين السابقين والتالين بالكفايات من الطعام وغيره».

وإلى الأمير علي الوزير أرسل الشاعر الشيخ محمد منصور بن نصر بقصيدة طويلة، هنأه فيها بذلك النصر، اقتطفنا منها:

أضــحت حُبيش بالحصون كأنها

أثـــــرًا إذًا بعد العيــان تـُـــنــادِ

أين الحصون الشامخات وأهلها

أيــــن العُقــاب ومنــزل الحدادِ

تبًا لـرأيهم المصـاب لقد سعوا

لهـــــلاكهم سعيًا على الأخداد

وعن تلك الانتفاضة وغيرها، كتب المُؤرخ عبدالكريم مُطهر قصيدة طويلة، ومنها نقتطف:

وسـل عـن حُبيـش حـين زاغ عُقابــه

فمـــــــالت عليــــه بالدمار صقـــور

وطار بمن سـاواه في البغـــي هائمًا

وما ضمـــه بعــــد البــوار ذكــــور

دعى قومه مــــــــن حُمــقه لغــواية

فقالــــوا أطعــنا والـــدبــور حبــور

فبـاءوا بــإثم البغي بعــد نـدامــــــة

وهبت عليهم بالـــــــــهـلاك دبــــور

واصل الأمير علي الوزير بعد إخماده لتلك الانتفاضة بأقل من شهرين مسيره جنوبًا 2 يوليو 1919م، وذلك لإخماد انتفاضة أخرى قام به بعض مشايخ عُزلة المسيل، الواقعة في أقصى قضاء العدين، على قوات سبق أنْ أرسلها، ومن عُزلة الجبلين استمر – كما أفاد المُؤرخ الدولة – بإرسال الإمدادات إلى تلك الجهة، وتمكنت تلك القوات مجتمعة، وبعد معارك شرسة من إخماد تلك الانتفاضة.

وأكمل ذات المُؤرخ المشهد بقوله: «فلم تكن إلا أيامًا قليلة حتى وصل المجاهدون من المسيل، بجميع المشايخ بعد حربٍ طويل، وقتل وغنم جزيل.. وعقب وصولهم بأيام يسيرة، بلغ وقوع حرب بين المجاهدين العازمين إلى الأمجود وبين أهلها، واستيلاء المجاهدين على جميع العزلة الباغية وما حولها.. وعقبه بأيام بلغ وقوع حرب بين المجاهدين العازمين إلى قرية الرئيس من جبل يفوع، فأسرع لهم الأمير بزيادة وإمداد، صادف وصولهم على أثر الوقوع، وكان ضبط العقال وأعيان الرعية، وإرسالهم إلى المحطة الأميرية المُتوكلية».

ومن المحطة الأميرية في عزلة الجبلين، وبعد أنْ مهدت له تلك القوات الطريق، أكمل الذئب الأسود مسيره صوب مدينة العدين 14 يوليو 1919م، ومن الأخيرة كان صعوده إلى حصن الدفدف، فيما توجهت قوات أخرى إلى سوق الرميد، ثم توجه بالقوات مُجتمعة صوب عزلة السارة، وتجاوز ناحية شلف وصولًا إلى ناحية مذيخرة، وجعل عمالة تلك الناحية للشيخ حسن بن علي باشا، ثم أكمل مسيره صوب منطقة ذي السفال 13 أغسطس 1919م، وصولًا إلى مدينة تعز 9 سبتمبر 1919م.

مُشاركة فاعلة

قَاتل الشيخ الشاب محمد عايض العقاب قتال الأبطال، وأبلى بلاءً حسنًا، وأشاد ببطولته الأعداء قبل الأصدقاء، وحين أدركته الهزيمة؛ يمم خُطاه صوب جبل راس، وهناك ترك – حسب شهادة حفيده الشيخ عبدالواحد عبدالجليل محمد عايض – أهله في ضيافة أصدقاء له من بيت المأمون، ثم أكمل بعد ذلك مسيره صوب مدينة صبيا، مُستنجدًا بحاكمها محمد بن علي الإدريسي، وحين لم يجبه الأخير، يمم خُطاه صوب مدينة جدة، مُستنجدًا هذه المرة بالشريف حسين، ولكن دون جدوى.

الشيخ عبدالواحد قال نقلًا عن والده أنَّ جده عاد بعد رحلته القصيرة تلك إلى جبل راس، وبدأ من هناك بمراسلة الأمير علي الوزير طالبًا المُصالحة، وأنَّ الوفاق تم بالفعل بين الجانبين، ولكن بعد أنْ وافق الإمام يحيى على شرطين اشترطهما، نص الشرط الأول على عودة الشيخ العقاب إلى بلدته بأمان، ونص الشرط الآخر على تعويضه التعويض العادل، وإعادة بناء داريه اللذان قام الإماميون بهدمهما.

عاد الشيخ العقاب بعد ذلك إلى مَسقط رأسه، وفي العام 1925م تقريبًا كانت وفاته، وبتوصيف أدق – وحسب شهادة حفيده عبدالواحد – استشهاده، فقد عمد أعداؤه (لم يحدد من هم، فيما أصابع الاتهام تشير إلى الإماميين) على تسميمه مرتين، فشلوا في الأولى، ونجحوا في الأخرى، وحين حاول المقربون منه أثناء المحاولة الأخيرة انقاذه، كما فعلوا قبل أربع سنوات أثناء المحاولة الأولى، وذلك بتفتيتهم جانبًا من الذهب الموجود في رأس جنبيته، ومَزجه بالحليب، منعهم من ذلك، وخاطبهم بلكنته الدراجة: «وجبه»، ليلفظ بعد ذلك، وفي قرية الجراجز التابعة لعزلة نقيل العقاب أنفاسه الأخيرة، وهو لم يتجاوز الـ 40 عامًا من عمره.

وأضاف الشيخ عبدالواحد أنَّ تعويضات الإمام يحيى، والتي قدرت بـ 3,000 ريـال فرنصي، وصلت بعد وفاة جده، وأنَّ عمه الكبير الشيخ مصلح محمد عايض قام باستلامها، وأعاد بها بناء داري الجبأبيب وعميقة، وعلى نمطهما القديم.

لم يقد الشيخ العقاب تلك الانتفاضة بنفسه؛ بل شاركه فيها عدد من أعيان ووجهاء منطقته، وكان الشيخان عبدالعزيز بن عبدالكريم الحداد، ومحمد بن حفظ الله الزوم من أشهر من ساندوه، وقد رفع الأخير راية استسلامه؛ وذلك بعد أنْ أحدق به عساكر علي الوزير في منزله الكائن في ربع ظَلْمَة، ونازلوه مُنازلة شديدة.

أما الشيخ الحداد، فسبق أنْ تحدثنا عن بُطولته المائزة، التي رسم فُصولها في إطار عُزلة الناحية، وهي البطولة التي أدت لاستشهاده، وصارت محط فخر واعتزاز أبناء جبل حُبيش قاطبة، وعنه قالوا في أمثالهم: «حداد الحروب، وحداد الرؤوس».

وقد أشاد الشيخ مُراد أمين نعمان – حفيد الشيخ العقاب – بدور الشيخين المذكورين في مُساندة جده، وقال أنَّ بينهما وأسرته مُصاهرة، وأنَّ خطباء المساجد في المناطق الوسطى كان يلهجون أثناء تلك الانتفاضة بهذا الدعاء: «وارض الله عن المقداد بن المقداد، الشيخ الحداد، وارض الله عن زعيم القوم، الشيخ محمد حفظ الله الزوم، وارض الله عمن خضعت له الرقاب، الشيخ محمد عايض العقاب».

ولد الشيخ العقاب يتيمًا، وعاش السنوات الـ 16 الأولى من عُمره عند أخواله من بيت سعد الدين العقاب، وما أنْ انبلج فجر شبابه، حتى عاد – كما أفاد حفيده الشيخ مُراد – للإقامة في دار الجأبيب، الدار التي أبصر فيها النور لأول مرة، والذي كان آية في الروعة والمنعة، وإليه – أي الدار – تَأتي المياه من أحد العيون الجوفية بساقية إلى وسطه، وفيه يوجد أول مُستراح (دورة مياه) في عُزلة نقيل العقاب، وفي حُبيش والنواحي المجاورة قاطبة.

وفيما يخص حياة الشيخ العقاب الشخصية، فقد تزوج – كما أفاد حفيده الشيخ مُراد – سبع مرات، وأولاده الأربعة (مصلح، وعبدالجليل، وأحمد، ونُعمان) من أمهات مُختلفات، ومن أحفاده الشيخ العميد أحمد أحمد محمد عايض (توفي سنة 2017م) عضو مجلس الشورى، ثم مجلس النواب، ونائب قائد اللواء 33 مُدرع لشؤون التسليح.

الشيخ مُراد قال أيضًا أنَّ أصول بيت العقاب تعود لخولان، ويلتقون بالنسب مع بيت سُحام، وأنَّ الجد الأول انتقل إلى حُبيش قبل ثلاثة قرون، وأنَّ المنطقة التي سكنها حملت اسمه (العقاب)، وكان لها قبل مقدمه اسمًا آخر، وهي شهيرة بغزارة المياه، وزراعة القات.

من جهته أورد المُتصرف يوسف بك حسن اسم الشيخ محمد عايض العقاب أثناء حديثه عن تحشيد الأتراك لأبناء المناطق الوسطى للتوجه إلى لحج لقتال الإنجليز تحت راية اللواء على سعيد باشا، وقال في نقله لأحداث يوم السبت 23 مايو 1915م مٌشيدًا به: «وصل مدير حُبيش ومقدمهم الحاج محمد عقاب، وهو أسمى رجل في النفس، وعلو المدارك، وقد سبقت له مُرابطة هذه السنة في باب المندب، فهذه أول قافلة أتت من المجاهدين».

يوسف بك كان يشغل حينها منصب قائم مقام العدين، وقد رافق مُقاتلي ذلك القضاء إلى لحج، وجاء في نقله لأحداث يوم الاثنين 15 يونيو 1915م ما نصه: «ورغمًا من حيلولة الليل سرنا بفرح ونشاط حتى أتينا السياني، وكان معي من رؤساء العشائر الشيخ حمود عبدالرب، والحاج محمد عقاب، والشيخ عبدالله علي باشا، والشيخ حسن الحميدي، والشيخ حمود بن أحمد ملهي الشهاري».

ونعت المُتصرف يوسف بك للشيخ العقاب بـ (الحاج) يعود إلى أصلًا إلى صلاحه، وتدينه الفطري، وهي حقيقة أكدها المُؤرخ محمد بن علي الأكوع، وأكدها أيضًا الشيخ مُراد أمين العقاب، وأفاد الأخير أنَّ جده تأثر بالفكر الصوفي السائد حينها، وأنَّ أبناء المنطقة بدأوا لذات السبب بالتوافد إليه، وارتضوه مُصلحًا لأحوالهم، وحكمًا لقضاياهم، وأنَّه لشدة زُهده وتقشفه قال عنه الإمام يحيى حين التقاه لأول مرة: «هذا إذا حكم اليمن سيُلبس اليمنيين الحصير».

وعلى ذكر الإمام يحيى، فقد أفاد الشيخ مُراد أنَّ ذلك الإمام عمل بعد إخماد ذئبه الأسود لانتفاضة حُبيش على التقرب من بيت العقاب، وزوج ابنه الأكبر السيف أحمد بفتاة من ذات الأسرة، وأنَّ الثوار أحسنوا بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م لتلك المرأة العُقابية، وحددوا لها راتبًا شهريًا كان يصل إليها مُباشرة من دار الرئاسة.

سنة الحدا

وبالعودة إلى ذكر تاريخ حُبيش البطولي، فقد ساندت فيما بعد شيخ العدين علي محسن باشا في انتفاضته ضد حكم الإمام أحمد يحيى حميد الدين، الذي تولى الحكم بعد مقتل والده، وكان الشيخ المذكور قد قام بتجميع قوات كثيرة منها، ومن العدين، وبعدان، وجبل صبر؛ لغرض الدفاع عن صنعاء، إلا أنَّ سقوط الأخيرة حال دون ذلك 13 مارس 1948م، فما كان منه إلا أنْ عاد من مدينة إب أدراجه، وقاوم في بلدته (العدين) ولأكثر من شهر القوات الإمامية المُتفيدة.

أباح الإمام أحمد مناطق العدين وحُبيش للقبائل، ورغم أنَّ بينه وبين أحدى أسر الأخيرة (بيت العقاب) مُصاهرة، كلف قبائل الحدا باستباحتها، وقال مُمنيًا أنصاره:

ألا يا أهل الحدا يا أهل آنس

عَـــشـاكم البلاد المُفسـدات

بعدان هي الأخرى، وبالأخص عزلة الدعيس (العُزلة)، تعرضت لذات الانتكاسة؛ والسبب انتماء الشيخ حسن محمد الدعيس أحد ثوار 1948م لها، ولوقوع المركز الحكومي فيها، وقد خلدت إحدى المُلالات الشعبية ذلك:

مسكيــــنة العزلة فـــاخربوها

وادوا سليط الجاز واحرقوها

ومن يومها صارت سنة الحدا، أو (البرشوت) كما هي تسميتها الدارجة، صارت – كما أفاد الباحث عادل الأحمدي – معلمًا زمنيًا يستدل به الآباء على أعمار أبنائهم، وعلى وحشية الإمام، كاشفًا – أي الأحمدي – أنَّ تلك السياسة الرعناء سلبت العدين وحبيش زخرفها، وزرعت البغضاء بين أبناء الشعب الواحد، لتعود تلك القبائل بخفي حنين، على أثر صيحة أخرى لذات الإمام، قال فيها:

يا حــــــدا يــــــا خيـــــــرة الله عليكم

حـــق بيـــت المــال كــــــلا يــــــرده

بــــــارق أحمد بايجيــــــش عليـــــكم

جيش لا يُحـــصى ولا حـــــــد يعــده

إنَّها حبيش، حضارة الرفض، وحاضرة الذرة الأشهاد، والأنداء، وسطوة الأولياء، وشيء من سدر قليل.. هكذا قال الباحث الأحمدي ذات استطلاع عن بلدته (حُبيش)، موضحًا أنَّ الرفض ارتسم على مخيلة ربوعها، وسطر صفحات مُجللة بالإباء، ابتداءً من ثورة الفقيه سعيد بن ياسين، وحتى حملة الأمير علي الوزير، وسنة الحدا، وصولًا إلى أحداث الجبهة الدموية، وللقصة بقية.

 

hekmahyemanya

ذات صلة