ملف - تعز.. القناصة (14)| "برهان محمد" "الهارب إلى العسكرة"!.. قناص وضحيته في قصر جمهوري تعز

  • تعز، الساحل الغربي، ضيف الله الصوفي:
  • 09:11 2023/01/24

  • الهروب إلى العسكرة!
  • قناص وضحيته في قصر جمهوري تعز
  • مهمات هجومية وضحايا بلا أطباء
بنصف دماغ شرايينه مُتجلطة، شابٌ يرقد بعينين مغمضتين، لربما يتجنب رؤية حياته البائسة أكثر مما يحسها، أو يشعر بها.. يفتح جفنيه عن عينين مسمرتين إلى السقف وقتما أرادت الممرضة إعطاءه شيئًا من علاج، أو تسقيه ماءً.. خلف نظراته حزن، يُكرس المعنى الحقيقي لبكاء الروح، يسميه البعض "البكاء الصامت" الممزوج بدموع قلب نازف.
 
جسدٌ لا يتحرك، أطرافه اليمنى مخذولة، عليه آثار لعملية شق الصدر، يتوسطه فتحات عليها أنابيب إلى الداخل.. شكلًا قد يبدو للواقف على أعتاب باب غرفة العناية التي يفترش زاويتها جسمًا هامدًا، بصدر يتسع ببطء، ويهبط بشكل أبطأ.. كيف للقارئ أن يكون بجانب المشاهد، في نفس المكان، لعلهما يتقاسمان الصدمة وهما ينظران إلى رجل بلا أحشاء.. في جوفه، كلية واحدة دون أخرى، طحال مُزِّقتْ، وأمعاء قُطِّعتْ. حجاب حاجز، وقولون عليهما خيوط جراحية.. ورغم هذا ما زال حيًا، يعيش مُحاطًا بدعوات والدته.
 
برهان محمد، ثلاثون عامًا، من أسرة بسيطة، غير ميسورة الحال.. كبير إخوانه، ترك أسرته، وغادر قريته مع بدء الحرب. نزل تعز المدينة عند أحد أصدقائه، يومًا يُفكر بالعمل، وأخرى بالغربة في بلاد السعودية، ولم يختر طريقًا منهما. صفر اليدين، لا يمكنه تغيير وُجْهَة حياته ولو شبرًا واحدًا، جرّب كل وسائل البحث عن الرزق، ولم يفلح.. جميع الأبواب صُفّدتْ في وجهه، فازداد هِمّة وضجراً.
 
 
العيش إلى المجهول، حياة من لا غد له.. رفض واقعه، وأبى التعايش معه. هرب بنفسه إلى العسكرة، آخر منافذه نحو التغيير، عَبَرَه وخاض تجربة جديدة. التحق بأحد الألوية العسكرية، تجنّد وتدرّب، ثم خرج برتبة جندي، راتبه ستون ألفاً -مبلغ يسير، يُعينه على البقاء في مدينة تخلو من أقاربه- انتقل بعد ذلك إلى ميدان القتال والدّوام في مربعات مُحيطة بجولة القصر، شرقي تعز.
 
لا يقدر على زيارة أهله، بقي الشاب حبيس مترسه لأكثر من ثلاثة أعوام.. كانت الجبهات كما لو أنها بيوت للمقاتلين، ومُلتقىً للشباب الذين أخرجتهم الحرب من دائرة العمل إلى رصيف الانتظار. وبدلًا من الوقوف الممل، وجدوا المتاريس مُتنفساً لهم داخل قفص المدينة.
 
المكان: القصر الجمهوري، الزمان: الحادية عشرة صباح أحد أيام نوفمبر، العام 2020.. خرج برهان وعدد من رفاق السلاح في مهمة هجومية، وزحف تجاه القصر.. ثلاثة أيام من الهجوم، وزعها المشاركون على التغطية وتفكيك العبوات الموضوعة في أراضي الحد الفاصل. اجتازوه في الليلة الأولى، تابعوا مسيرهم في اليومين الآخرين بحسم وصولًا إلى مبنى الضيافة، قلب القصر، وثالث متاريس الحوثيين.
 
 
 
طلقة قناص، عيار 50، حطّت رحالها على جُعبة أحدهم في الجهة اليسرى من صدره.. برهان ضحية، يمسك بندقيته، يتوجع، يصرخ، بعد أن اخترقت جسده شظايا صغيرة، ومزّقت بعضاً من أعضائه الداخلية، ذات الوظائف الأكثر أهمية.. هذه اللحظات الموجعة، لم يتوقعها الشاب من قبل، كما لم يضع المسيّر للمعركة حسبانًا للقناص الذي تموضع مبنى مُدمرًا، قصفه الطيران.. قاتل صبور، انتظر لحظة اقتراب المقاتلين إلى مرماه، ليكونوا بين فكي القناص والأنفاق المظلمة، وفق شهادته.
 
ماذا تتوقع؟ أن تكون ضمن فريق، فجأة يهوي أحدكم أرضًا، أمام صف من الأفراد، هل تدرك حجم الارتباك؟ لا شك أن الجميع سيتحولون إلى مُسعفين، وينسون المهام التي جاءوا لأجلها.. يفترض دائما أن يرافق التحركات العسكرية فريق طبي، وما يحدث في جبهات تعز هو العكس تمامًا، وهذا يثبت شيئًا من اللا مسؤولية.
 
مُسعفون ثلاثة، وجثة تنزف دمًا بأيديهم. بخوف وتخفٍ من عين القناص.. قدماه إلى الأعلى، ورأسه في الأسفل، وضعية الإسعاف التي أنزل بها الجريح، أعادت قليلا من الدماء إلى دماغه، وأدخلته بجلطة دماغية، وشلل نصفي.. اهتمام ليس كما ينبغي، ومساعدة تبدو للعيان خطأً، الأمر الذي زاد من تدهور الحالة المصابة، ما لم يمت.
 
في طوارئ مستشفى الثورة، برهان وفي صدره جميع براهين الموت.. هبوط حاد، وكلية تالفة.. في العناية، عملية استكشافية للبطن، استئصال الكلية اليسرى والطحال، خياطة الحجاب الحاجز والقولون المستعرض، ناهيك عن الجلطة التي تسببت بخذلان حركة الأطراف اليمنى، وفقًا لتقرير.
 
 
غائب الوعي لعشرة أيام، يرقد سرير العناية بجسدٍ يحتاج المزيد من دم فصيلته.. مُرافقه: المصاب احتاج لأكثر من 12 قِربة دم حتى عاد إلى وعيه، عاجزًا عن الكلام والحركة.. في نفس اليوم بدت حمى شديدة تظهر على المريض، رجّح الجراحون سببها إلى التهاب العملية نتيجة عدوى بكتيرية.
 
بعد ثاني عملية أجراها الأطباء قالوا إن قيحًا في بطن الجريح زاد من حجم المعاناة، أضف إلى ذلك وجود أجزاء مثقوبة من الأمعاء الغليظة، عملوا على استئصالها.. كما أظهر الجهاز المحوري تجمعًا متوسطًا من السائل والهواء في الجهة اليسرى من الصدر، مع بقايا عظم في الجزء السفلي للرئة، وكمية قليلة من القيح بين المعدة والبنكرياس، وفقًا لتقريره الطبي الذي ذُيِّل بجملة: "يحتاج إلى استكمال العلاج في مركز مُتخصص خارج الوطن".. وما هذه إلا دلالة واضحة على عجز المُستشفى، وقلة خدماته.
في الثورة، ينتقل المريض من معاناة إلى أخرى أشد وأقسى. خضع لعمليتين، وعانى كثيرًا من إهمال الأطباء والجراحين، أدى ذلك إلى إفشال العمليتين، بحسب شقيقه: "سأذكر موقفًا.. جئتُ لزيارة أخي بعد إجرائه العملية الأولى.. صادفتُ ممرضًا، ينظف الجرح، بالواقع هو لا يُعقم منطقة العملية، وما حولها.. بل يمرر شاشة التعقيم على الجرح نفسه، وبشكل خفيف.. سألته عن السبب، ورد عليَّ بسخرية، "عارف شغلي".. لا يُقدِّرون الجرحى، فقط إهمال، ونظافة منعدمة".
 
حرارة لم تنخفض، وجسم لا يهدأ. الإهمال سيد المكان، والبقاء فيه يعني الاقتراب من الموت.. مُغادرة الثورة، كان السبيل الوحيد لنجاة المريض.. نقله مُرافقيه إلى فندق خاص، يتلقى فيه العناية على أيدي طبيب وممرض، يأتون يوميًا لمراقبة حالته.. علاج، فحوصات، أجهزة، كشافات، متابعة، ومصروفات يومية.. كل هذا لمدة شهر، أنفق فيه ما يقارب خمسة عشر ألف ريال سعودي.. ثم رتّب له شقيقه رحلة طبية على حساب لجنة الجرحى الطبية.
 
غادر برهان مطار عدن، متجهاً إلى القاهرة، لربما تحقق حلمه بالسفر، لكنه لم يصعد سلم الطائرة بقدميه، إنما محمولًا على أكتف الآخرين.. ستة أشهر خارج البلاد، قضاها مُتنقلًا بين المُستشفيات والعيادات.. عملية شبك الأمعاء، وتقشير الرئة، ثم اتجه إلى مركز العناية الطبية للإعاقة والتدّرب لشهرين متتالين على تمارين الأطراف.. حالته إلى الأحسن نسبيًا، استعاد صوته المفقود منذ إصابته، وحركة لسانه بعد أن كادت تتوقف عن الحديث.
 
قد يشعر بالأسف والخجل معًا، حين يَمُدّ أحدهم يده لمصافحته.. تعابير خفية قرأها كاتب القصة على ملامح برهان حينما زاره إلى غرفة أصدقائه، والجلوس معه للبحث عن تفاصيل الحادثة، وبقائه بين معاناتين: إعاقة تظهر اليوم في لكنته، وحركة أطرافه، وأخرى سترافقه بقية أيامه، فالعيش بكلية واحدة تهديد مُحتمل للحياة.

ذات صلة