بعد شهرين من تحسن العملة.. الغلاء ينهش المواطنين في تعز

  • هاشم علي - تقرير خاص:
  • 08:59 2025/10/25

بعد مرور شهرين من استقرار سعر صرف الريال اليمني، كان من المتوقع أن تنعكس هذه التحركات الإيجابية على حياة المواطنين في المناطق المحررة، لكن الواقع في مدينة تعز يظهر عكس ذلك؛ فالأسعار في الأسواق لم تهدأ، بل استمرت في الصعود لتطول المواد الغذائية الأساسية والخدمات والإيجارات، وهو ما ضاعف معاناة الناس ووضعهم أمام تحديات يومية كبيرة.

وبين تحسن العملة الوطنية وارتفاع الأسعار، يقول كثيرون إن المشكلة لا تكمن في سعر الصرف وحده، بل ترتبط أساسًا بغياب الرقابة الفعلية وترك السلع الأساسية للعرض والطلب بلا ضوابط، الأمر الذي يمنح التجار فرصة استغلال الوضع وتحقيق أرباح غير عادلة على حساب المواطنين، الذين أصبحوا الضحية الأولى لهذه المعادلة الاقتصادية المشوهة.


تململ شعبي 

يستعرض "الساحل الغربي" في هذا التقرير، أسباب ارتفاع الأسعار، وتداعياته على القدرة الشرائية، وانعكاسات غياب الرقابة على حياة المواطنين في تعز، إضافة إلى المطالب الشعبية لتخفيف العبء الاقتصادي عن الأسر، في محاولة لرسم صورة شاملة عن أزمة لم تعد مجرد أرقام، بل واقع يومي يلامس لقمة العيش.

ومن خلال جولة قصيرة داخل أحياء تعز، يمكن ملاحظة التململ الشعبي بوضوح، فالمواطن عبدالكريم الصبري، موظف حكومي من حي صينة، يلوّح بفاتورة مشترياته التي تضاعفت قيمتها خلال الفترة الأخيرة قائلًا: "راتبي 120 ألف ريال لا يصمد سوى عشرة أيام، رغم أننا نحاول التخلي عن كثير من المتطلبات اليومية.. اليوم كيلو الأرز ارتفع، الزيت تضاعف، والدقيق ما عاد نقدر نشتريه بالجملة، كل شيء يزيد إلا المرتب".

يتوقف الرجل لحظة، ثم يضيف بمرارة: "المشكلة أن الدولار نزل، لكن الأسعار تصعد! ما عد في منطق، ولا في دولة توقف العبث"، ولا يختلف حاله عن حال مئات الأسر التي تقطن المدينة، وتجد نفسها في سباق خاسر مع الغلاء، فبينما يحاول البعض تقليص النفقات، والتخلي عن بعض المواد الغذائية الأساسية، يتجه آخرون إلى الاقتراض أو الاعتماد على المساعدات، في وقتٍ تتقلص فيه فرص العمل، وتتراجع قيمة الريال الشرائية أمام موجة تضخمية للأسعار.

في المحال التجارية، تُحدّث قوائم الأسعار باستمرار، وأحيانًا أكثر من مرة في الأسبوع، في مشهد يعكس حجم الفوضى التي يعيشها السوق المحلي، فلا تكاد تمضي أيام حتى يلاحظ المواطن تغيّرًا جديدًا في أسعار السلع الأساسية، من الدقيق والزيت إلى الأرز والغاز المنزلي، دون أي مبرر اقتصادي واضح.

يتحدث مهيوب قائد، أحد كبار التجار في حي بئر باشا، لـ "الساحل الغربي" إنهم يعيشون في دوامة لا تنتهي: "نحن تجار ولا أحد يرضا لنا بالخسارة، وبالتالي نرفع الأسعار مجبرين، لأن الموردين يرفعوا علينا"، مشيرًا إلى أن كبار الموردين هم من يتحكمون في السوق، ويُصدرون قوائم جديدة كل فترة، بينما يضطر صغار التجار لمجاراة الأسعار حتى لا يتكبدوا خسائر، في ظل غياب أي جهة رقابية أو آلية تسعير تحدد هامش الربح.

ويبرر بعض التجار، ارتفاع الأسعار بتكاليف النقل المرتفعة وضرائب النقاط المنتشرة على الطرق بين المحافظات، إلا أن المواطن البسيط لا يرى في هذه التبريرات سوى غطاء لجشع يزداد يومًا بعد يوم.. هذا الاضطراب اليومي في الأسعار أفقد المستهلكين الثقة بالأسواق المحلية، إذ باتت الأسر تتجنب الشراء إلا للضرورة القصوى، فيما تراجع الطلب في بعض السلع غير الأساسية، ما أدى إلى ركود جزئي في الحركة التجارية داخل المدينة.


جشع تجاري
العملة تتحسن.. والأسعار تصعد

على الورق، تبدو مؤشرات الاقتصاد في تعز مشجعة نسبيًا، فالعملة تحافظ على استقرارها، وسعر الصرف يسجل أرقامًا أقل من ذروة الانهيار السابقة؛ لكن في الواقع يعيش المواطنون مشهدًا مختلفًا تمامًا، إذ لا أثر لهذا التحسن في السوق، فالأسعار تبدو كأنها تسير في خطٍّ موازٍ لا علاقة له بسعر الدولار أو بأي منطق اقتصادي.

يؤكد المواطن رهيب الشرعبي، في حديثه: "لم يعد السعر ثابتًا ليوم واحد، حتى إذا اشتريت شيئًا اليوم بسعر، غدًا تشتريه بأكثر.. لا نعرف على أي أساس تُحسب الأسعار، ولا أحد يشرح للناس، والمشكلة الأكبر أن السوق بلا رقابة ولا أحد يسأل التجار لماذا يرفعون الأسعار، فقط نسمع أن الدولار نزل، لكن الأسعار ما زالت تتحدى الناس".

هكذا يشعر السكان بأن دورة الأسعار تسير بلا توقف، وهو ما يثير غضبًا حقيقيًا من غياب الرقابة، فالكثير من المواطنين يرون أن المشكلة ليست في قيمة العملة، بل في ضعف المؤسسات وعدم وجود جهة تضبط السوق أو تحاسب المتلاعبين.

يؤكد خبراء محليون أن الأسواق في تعز تعيش حالة انفصال كامل بين السياسة النقدية والسوق التجارية، مشيرين إلى أن تحسن العملة لا يكفي وحده لخفض الأسعار، لأن السوق في تعز خاضع لعوامل أخرى، منها ارتفاع تكاليف النقل بين المحافظات، وتعدد الرسوم غير الرسمية، وغياب آليات رقابة حقيقية، ناهيك عن جشع تجاري واضح، واستغلال بعض التجار غياب المتابعة لتحقيق أرباح مضاعفة.


فوضى مباشرة

في مدينة تعز، لا أحد يعرف من يراقب الأسعار أو من يضع حدودها، والأسواق تعمل بطريقة أشبه بالفوضى المنظمة، فالبائع يرفع السعر كما يشاء، والمستهلك يشتري مضطرًا، والسلطات المعنية غائبة تمامًا عن المشهد، أما الرقابة التموينية التي يُفترض أن تكون خط الدفاع الأول عن المواطنين لم تعد تُمارس دورها إلا عبر بيانات موسمية أو وعودٍ لا تتجاوز التصريحات الإعلامية.

ويرى مراقبون أن الأزمة في جوهرها ناتجة عن سياسة الأسواق في مدينة تعز، والتي باتت تُدار وفق قاعدة "من يملك البضاعة يملك القرار"، وهي معادلة خطيرة تجعل المواطن تحت رحمة التجار، مشيرين إلى أنه عند إصدر التوجيهات من الجهات الرسمية، لا يوجد جهاز رقابي فعلي قادر على تنفيذها أو مراقبتها، فالأمر يتطلب نظام متابعة يومي، من الجمارك إلى محلات التجزئة، وهو ما لا يحدث مطلقًا.

من جانبه، يؤكد أحد العاملين في مكتب الصناعة والتجارة بتعز، أن المكتب يعاني من ضعف الإمكانيات المادية، وأن الرقابة الفعلية تحتاج إلى موارد ضخمة وجهود مشتركة بين السلطات المحلية والأمنية. ويقول لـ "الساحل الغربي": 'لدينا خطط للنزول الميداني، لكن لا توجد ميزانية تشغيلية تغطي العمل اليومي، وأحيانًا لا نستطيع تغطية تكاليف حملات التفتيش لموظفينا بشكل يومي".

ويشدد كثيرون على ضرورة تحرك السلطة المحلية والجهات المعنية في المحافظة لإنشاء نظام رقابة دائم، يصدر تسعيرات رسمية ويربطها بسعر الصرف الحقيقي، ما لم ستبقى الأسعار منفلتة، وبالتالي يدفع المواطن الثمن في ظل هذه الفوضى، وغياب السلطات الرقابية والمكاتب المعنية بضبط السوق وحركة التجارة.

وتنعكس هذه الفوضى مباشرة على حياة المواطنين، فحتى الفارق البسيط في الأسعار اليومية يتحول إلى عبء شهري ضخم على الأسر محدودة الدخل، خصوصًا مع ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء الخاصة، وسط تحذيرات من غياب الرقابة، التي لا تعني فقط فوضى اقتصادية، بل قد تؤدي إلى موجة احتكار واسعة للسلع الأساسية، وهو ما يحدث في أكثر الفترات، إذ تختفتي بعض المواد الغذائية من السوق لأيام قبل أن تعود بأسعار مضاعفة.



رسوم المدراس الأهلية

عقب مرور عدة أسابيع على تشكيل لجنة خاصة بقرار من قبل محافظ تعز، لدراسة رسوم المدارس الأهلية وضبطها، وصدور تعميم رسمي من مكتب التربية والتعليم يمنع أي زيادات جديدة أو تحصيلات إضافية من أولياء الأمور، إلا أن الواقع لا يزال يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا.

وفي هذا السياق، يوضح الناشط أحمد الباشا أن المدارس الأهلية في تعز تجاهلت قرارات اللجنة، بل رفعت رسومها بعد تحسّن سعر صرف الريال اليمني، وكأنها تتعمد استغلال الظرف الاقتصادي لصالحها.

ويؤكد الباشا: "عندما كان سعر الصرف في أعلى مستوياته، وقبل الهبوط المفاجئ بأيام قليلة، سجّلت أطفالي الاثنين ودفعت الرسوم كاملة، لكن بعد أسابيع فقط تلقيت إشعارًا جديدًا من إدارة المدرسة تطالبني بدفع مبالغ إضافية، بحجة أن التسعيرة تم تعديلها".

وتبرر إدارات المدارس الخاصة هذه الزيادة بارتفاع تكاليف التشغيل والرواتب، لكنها لا تُقدّم أي شفافية في البيانات أو الحسابات، فيما تواصل اللجنة المختصة بمتابعة هذا الملف الصمت دون نتائج ملموسة على أرض الواقع.

ويرى أولياء أمور أن ما يجري يمثل تحديًا واضحًا لسلطة مكتب التربية والتعليم، وأن استمرار تجاهل قرارات اللجنة يكرّس الفوضى ويحوّل التعليم الأهلي إلى سوق تجارية غير منضبطة، تتعامل مع الطلاب وأسرهم كزبائن لا كحقٍّ إنسانيٍّ في التعليم.

ويحذر كثيرون من أن استمرار هذا الوضع، مشيرين إلى أنه قد يؤدي إلى تسرب آلاف الطلاب من المدارس، خاصة من الأسر محدودة الدخل، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة عمومًا، وانعدام أي رقابة حقيقية على المؤسسات التعليمية الخاصة.



الإيجارات.. نزيف شهري

في موازاة الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية، تشهد مدينة تعز موجة من ارتفاع الإيجارات السكنية والتجارية، لتضيف عبئًا آخر على كاهل المواطنين الذين يعيشون على رواتب محدودة لا تواكب الواقع المعيشي المتصاعد.

يقول نبيل عبدالكريم، موظف في القطاع الصحي ويسكن في حي المطار القديم: "كنت أدفع 75 ألف ريال إيجارًا شهريًا، ومع تدهور العملة طالبني مالك المنزل بدفع 110 الف ريال، لكن المفاجئ أنه اليوم يطالبني بدفع 150 الف ريال، بحجة أن الإيجار لا يساوي 300 ريال سعودي، ويلوح بإخراجي نهاية هذا العام من المنزل مالم أدفع له الزيادة المطلوبة.. لا أعلم على أي أساس، ولا توجد جهة تنظم أو تحدد سقفًا معينًا للإيجارات".

وفي حي عصيفرة شمالي المدينة، يتحدث رشاد العريقي، طالب جامعي يُقيم مع أسرته، عن معاناة مشابهة: "الإيجارات أصبحت كابوسًا في مدينة تعز، والناس تفكر بمغادرة المدينة، لكن أين تذهب؟ في الريف لا توجد فرص عمل، وفي المدينة لا توجد رحمة".

وبين هذين الصوتين يتكرر المشهد ذاته في معظم أحياء تعز، فالساكنون مهددون بالطرد، وآخرون يبحثون عن مساكن أصغر أو أبعد في الأطراف، في محاولة يائسة لتخفيف الكلفة الشهرية؛ وفي المقابل يبرر بعض ملاك العقارات الزيادات بأنها نتيجة لارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم العام الذي طال كل شيء تقريبًا.

ويرى كثيرون أن السوق يعيش حالة من الانفلات التام، إذ لا توجد تسعيرة رسمية أو ضوابط قانونية تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر، ما جعل الأسعار تخضع تمامًا لمزاج العرض والطلب، دون أي تدخل من الجهات المختصة.

يلفت آدم المجيدي، أحد الوسطاء العقاريين في حديثه لـ "الساحل الغربي": "كل مالك يحدد السعر الذي يريد، والمستأجر إن لم يقبل فهناك عشرات الأسر تبحث عن سكن، فالطلب أكبر من العرض، خصوصًا بعد نزوح آلاف الأسر من مناطق مليشيا الحوثي إلى وسط المدينة".

ويضيف أن هذا الواقع جعل من الإيجارات الشهرية بندًا يلتهم الجزء الأكبر من دخل الأسرة المتوسطة، حيث تتجاوز بعض الإيجارات نصف الراتب الشهري لموظفي القطاع العام، في مدينة تُصنف من أكثر المدن اليمنية اكتظاظًا بالسكان؛ ويحذر اقتصاديون من أن استمرار غياب الرقابة والتنظيم في سوق الإيجارات سيؤدي إلى تحولات اجتماعية خطيرة، أبرزها تفاقم معدلات النزوح الداخلي، وتراجع قدرة الأسر على تحمل تكاليف المعيشة في المدينة، ما قد ينعكس على الاستقرار الاجتماعي بشكل عام.



مطالبات شعبية

تتصاعد الدعوات الشعبية في تعز لتفعيل الرقابة التموينية وتطبيق إجراءات عملية تهدف لاحتواء الأزمة الاقتصادية وحماية المواطنين، وتشمل هذه المطالبات تشكيل لجان رقابة ميدانية تقوم بالنزول إلى الأسواق أسبوعيًا لمتابعة الأسعار والسلع، وإصدار قائمة تسعيرة رسمية محدثة تتماشى مع سعر الصرف الفعلي.

إضافة إلى تحديد سقف للإيجارات السكنية والتجارية ومنع الزيادات العشوائية، وإحالة المتلاعبين بالأسعار إلى النيابة العامة لضمان محاسبة المخالفين، وتخصيص خط ساخن لتلقي شكاوى المواطنين والإبلاغ عن التجاوزات.. وتشكل هذه المطالب صرخة سكان المدينة الذين يرزحون تحت وطأة ارتفاع الأسعار، وغياب رقابة حقيقية، وباتت حاجة عاجلة لإجراءات عملية تخرج السوق من حالة الفوضى المستمرة.

وسط هذه الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، يبدو المشهد في مدينة تعز أكثر هشاشة وتعقيدًا من أي وقت مضى، فالغلاء المستمر في المواد الغذائية، وانفلات سوق الإيجارات، وغياب الرقابة الفعلية على الأسعار، كلها عوامل تتضافر لتجعل الحياة اليومية للمواطن البسيط صراعًا شبه دائم من أجل البقاء، بينما تبقى المؤسسات الرسمية عاجزة عن فرض أي ضوابط فعالة أو حماية ملموسة.

ويرى مراقبون أن الأزمة تبدو اليوم بمثابة حصار يومي على لقمة العيش، حيث تحولت الأمور البسيطة إلى كابوس مستمر، والطعام والمسكن والخدمات الأساسية إلى معركة دائمة، وفي ظل هذا الواقع، يصبح أي تأخير في التدخل الرقابي أو تأجيل تطبيق القوانين أكثر من مجرد نقص إداري، بل تهديد مباشر لاستقرار المجتمع، وقدرة الأسر على الصمود والحفاظ على حياتها.

ويشير هؤلاء إلى أن عدم تحرك السلطات المحلية والأجهزة القضائية بشكل عاجل وحاسم، فإن دوامة الغلاء والجشع ستستمر في ابتلاع القدرة الشرائية للمواطنين، وسيصبح مأساة الناس اليومية جزءًا من معركة أوسع، تعكس الانهيار الاقتصادي المستمر في المدينة، وتأثيره المباشر على أبسط حقوق الإنسان في لقمة العيش والحياة الكريمة.

ذات صلة