من طريق الكدحة إلى الواجهة البحرية.. المخا ترسم ملامح نهضة جديدة
- هاشم علي، الساحل الغربي:
- قبل 3 ساعة و 39 دقيقة
منذ أيام، كان يخطط الشاب معتز فيصل برحلة بسيطة رفقة أسرته لقضاء نهاية أسبوع مختلفة، ومع اعتدال الأجواء الساحلية ودخول فصل الشتاء، وجد أن الوقت مناسب لزيارة مدينة المخا التي بات اسمها يتردد كثيرًا في أحاديث الناس عن التحولات الكبيرة التي شهدتها خلال السنوات الأخيرة؛ وبالنسبة لمعتز، الذي اعتاد زيارة المدينة حين كانت طرقها مرهقة وخدماتها محدودة، فإن الرحلة هذه المرة تحمل طابعًا مختلفًا، ليس فقط للاستجمام، وإنما لاكتشاف مدى التغير الذي طرأ على مدن الساحل الغربي.
صباح الجمعة، خرج معتز مع أسرته عبر الطريق الجديد الذي يربط تعز بالمخا، حيث كان الطريق بالنسبة له جزءًا من التجربة؛ فالتوسعة والتحسينات التي شهدها خط الكدحة جعلت الرحلة أكثر سلاسة.. في منتصف الطريق توقف الشاب ليلتقط صورًا للمرتفعات الممتدة نحو الساحل، وهو يشرح لأقاربه كيف كان التنقل بين المدينتين رحلة شاقة قبل أعوام، بينما أصبحت اليوم ممرًا آمنًا ومكتظًا بالمسافرين.
وعند وصولهم المخا، شعر معتز بالدهشة، فأمامه مدينة تبدو وكأنها خضعت لإعادة تشكيل شبه كاملة، شوارع واسعة، أرصفة منظمة، محلات تجارية حديثة، وحركة عمرانية تنمو بوتيرة لا تخطئها العين.. قرر معتز اصطحاب أسرته في جولة عبر الواجهة البحرية التي أصبحت مقصداً للأسر والزوّار، مؤكدًا أن المخا تتحول تدريجيًا إلى مدينة ساحلية واعدة يمكن أن تنافس مدنًا يمنية أخرى خلال سنوات قليلة.
وخلال توقفه لتناول الغداء، استمع الشاب إلى حديث مواطنين قالوا إن "المخا تغيّرت بالكامل خلال السنوات الماضية، وإن المشاريع الخدمية التي أطلقتها المقاومة الوطنية غيّرت وجه المدينة". مؤكدين أنهم باتوا يلمسون تحسن الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة وطرق، وأن المستثمرين بدأوا يتوافدون لافتتاح مشاريع جديدة بعد أن أصبحت البيئة أكثر استقرارًا.
هذه الشهادة أعادت إلى ذهن معتز ما سمعه من أصدقائه عن الرؤية التي يقودها الفريق أول ركن طارق محمد عبدالله صالح، والتي تجمع بين مشروع التحرير من مليشيا الحوثي وبناء نموذج مدني متطور في مناطق الساحل الغربي، وبينما كان يستمع، بدأ يربط بين ما شاهده بأمّ عينيه وبين ما يُقال عن البنية التحتية الجديدة والمستشفيات والمدارس والمجمّعات التعليمية التي أصبحت تحتضن مئات الطلاب.
وفي المساء، حين جلس معتز مع أسرته على الشاطئ يراقب عشرات الأطفال يلعبون، أدرك أن هذه الرحلة لم تكن مجرد نزهة عائلية، بل كانت نافذة لاكتشاف واقع جديد يتشكل على الساحل، مدركًا بأن المخا لم تعد مجرد مدينة ساحلية صغيرة، بل مشروع نهضوي يتقدم بخطى ثابتة.. وفي لحظة صمت، قال لأقاربه: "قبل سنوات كنا نأتي لنقضي يومًا هربًا من ضجيج المدينة، واليوم نحضر لنشهد ولادة مدينة جديدة".
سهولة في التنقل
لم تعد رحلة الوصول إلى مدينة المخا كما كانت قبل أعوام؛ فالطريق الذي كان محفوفًا بالمشقة وتدهور البنية التحتية أصبح اليوم أحد أكثر المسارات حركة بين تعز والساحل الغربي، ناهيك عن عمليات التوسعة والتحسين الدؤوبة، إلى جانب المشاريع الخدمية التي امتدت على طول الطريق الرابط بين المديريات، ساهمت في جعل التنقل أكثر أمانًا وراحة.
يقول المسافر "محمد أحمد" لـ "الساحل الغربي" إن افتتاح خط الشيخ محمد بن زائد مثّل نقطة تحول حقيقية، إذ فتح ممرًا حيويًا يربط تعز بمديريات الساحل الغربي، وأسهم في تنشيط التجارة الداخلية، وزيادة حركة نقل البضائع، ورفع الإقبال على مدينة المخا سواء لأغراض العمل أو الزيارة أو الاستثمار.
ويضيف الرجل أن الطريق الجديدة اختصرت ساعات طويلة من الانتظار والمعاناة التي كانت تواجه المسافرين، وغيّرت المزاج العام تجاه الرحلات الساحلية التي أصبحت خيارًا مستساغًا وسهلًا.
ويؤكد في حديثه أنه عند دخول مدينة المخا، يلمس الزائر انتقالها الهادئ والمستمر نحو التحول العمراني؛ فالمدينة التي عانت لسنوات من الإهمال باتت اليوم تتسع عمرانياً كل عام، وتظهر الأسواق المفتوحة بمظهر أكثر تنظيمًا، والمشاريع السكنية الجديدة تتوزع على أطراف المدينة، بينما تنشط الحركة التجارية بشكل لم يعتده السكان في السابق.
ويشير إلى أن شبكة الطرق الداخلية التي خضعت للتأهيل والتوسعة جعلت المخا أكثر قابلية للعيش وأكثر جاذبية للمستثمرين الذين يبحثون عن بيئة مستقرة لإطلاق مشاريعهم.
نهضة متسارعة
شهادة من الواقع
"موفد الساحل" كان يرصد الوضع بدقة، حيث التقى أحد رجال الأعمال الذي تحدث بأن المخا شهدت خلال السنوات الماضية تطورًا متسارعًا ونهضة خدمية غير مسبوقة، مؤكدًا أن المدينة انتقلت من مرحلة ترميم الضروريات إلى مرحلة بناء مؤسسات خدمية قادرة على استيعاب النمو السكاني والاستثماري.
ويوضح أن الجهود التي خُصصت لبناء المدن الساحلية لم تكن محصورة في إعادة تأهيل ما دمرته الحرب، بل شملت أيضًا إطلاق مشاريع جديدة في قطاعات الصحة والتعليم والطرق والمرافق الحيوية.
وبحسب كثيرين، فإن المشروع التنموي في الساحل الغربي بدأ من الأساسيات مثل إعادة تأهيل الطرق، تحسين البنية التحتية للكهرباء والمياه، إنشاء المستشفيات والمراكز الطبية، وتطوير المدارس والمجمّعات التعليمية التي تحتضن اليوم مئات الطلاب من أبناء المديريات الساحلية.. هذه المشاريع لم تقتصر على تحسين الخدمات فحسب، بل أسهمت في خلق بيئة مشجعة للاستثمار، وأسست لنمط تنموي قادر على الصمود والتوسع.
من جهته، يقول هاني سعيد لـ "الساحل الغربي"، إن النهضة التي تشهدها المخا لا تقوم على جهود فردية أو مشاريع معزولة، بل على رؤية استراتيجية متكاملة تبنتها قيادة المقاومة الوطنية، حيث تستند هذه الرؤية إلى مسارين متوازيين: بناء مؤسسات مدنية قوية في المناطق المحررة، وتنفيذ مشاريع خدمية تعيد الأمل للسكان.
ويؤكد أن هذا التوجه خلق نموذجًا تنمويًا مختلفًا في مدن الساحل الغربي، يُبنى على أساس التخطيط طويل المدى، ويهدف إلى إحداث نقلة نوعية في الخدمات الأساسية، في خطوة تعيد الاعتبار للمدن المحرّرة وترسم ملامح مستقبل مختلف لليمن في مرحلة ما بعد الحرب.
ويستطرد بقوله إن التغيير الملحوظ في المخا يعكس رؤية تسعى لجعل المدن الساحلية قادرة على لعب دور اقتصادي حيوي، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على مستوى البحر الأحمر ككل، من خلال تنشيط الميناء، وتسهيل حركة التجارة، وخلق سوق عمل جديدة تستوعب الشباب وتحد من البطالة في المنطقة.
رؤية التحرير والبناء
لا تنفصل التحولات التي يشهدها الساحل الغربي عن الرؤية السياسية والعسكرية التي تتبناها المقاومة الوطنية بقيادة الفريق أول ركن طارق محمد عبدالله صالح، حيث تعتمد قيادة المقاومة نهجًا مزدوجًا يرتكز على مسارين متوازيين، فالمسار الأول التحرير واستعادة الدولة، والمسار الثاني البناء والتنمية في المناطق المحررة.. وهو نهج يرى فيه كثيرون محاولة لخلق نموذج جديد في سياق حرب أرهقت اليمنيين لسنوات.
وبحسب مراقبين يعمل الفريق أول ركن طارق صالح وفق خطة واضحة تهدف إلى تحصين المجتمع في المناطق المحررة عبر توفير الخدمات الأساسية وتعزيز الاستقرار، بالتوازي مع دعم العمليات العسكرية في جبهات القتال ضد مليشيا الحوثي.
ويشرح مواطنون أن التركيز على التعليم والصحة لم يأت من فراغ، بل من إدراك بأن المجتمعات التي تمتلك خدمات أساسية قوية تكون أكثر قدرة على الصمود في الحروب، وأكثر استعدادًا لمرحلة ما بعد النزاع، وبالنسبة لكثير من السكان، فإن وجود سلطة محلية مستقرة ومؤسسات خدمية تعمل بشكل منتظم، شكل فارقًا نفسيًا ومعيشيًا قلّما توفر في مناطق أخرى.
ووفق هؤلاء فإن مشاريع البنى التحتية والخدمية التي يجري تنفيذها في المخا وذباب والوازعية والخوخة، تركت بصمة واضحة لدى المواطنين، فقد انعكست على مستوى المعيشة، وتراجعت مظاهر الانقطاع الخدمي التي ظلت لسنوات عنوانًا لمعاناة سكان الساحل، وباتت المدينة، بفضل هذا الاهتمام، أكثر جاهزية لاستيعاب الاستثمارات والمشاريع المستقبلية، ما عزز ثقة المواطنين بالمستقبل وساهم في ترسيخ الشعور العام بالأمان.
التعليم.. رهان المستقبل
يُجمع كثيرون على أن التعليم هو حجر الزاوية في مشروع إعادة بناء الساحل الغربي، فقد كانت المنطقة لعقود تعاني من نقص حاد في البنى التحتية التعليمية، الأمر الذي أجبر الآلاف من شبابها على قطع مسافات طويلة للوصول إلى الجامعات في تعز أو الحديدة، ومع غياب المساكن الطلابية وصعوبة المواصلات وتكاليف المعيشة، تسرّب آلاف الطلاب من التعليم الجامعي، واضطروا للانخراط في أعمال يومية لتلبية احتياجات أسرهم.
لكن هذا الواقع شهد تحولًا تدريجيًا خلال السنوات الأخيرة، فبدعم من دولة الإمارات العربية المتحدة، نفذت المقاومة الوطنية مشروعًا واسعًا لإنشاء مدارس نموذجية ومجمّعات تعليمية متطورة في معظم مديريات الساحل.. هذه المجمّعات، التي تتضمن قاعات حديثة ومختبرات علمية ومكتبات وملاعب، فتحت الباب أمام التعليم الأساسي والثانوي ليأخذ شكلًا جديدًا في المنطقة.
ويصف أحد المعلمين في مدينة المخا هذا التغيير بأنه "نقلة تاريخية، موضحًا أن المدرسة اليوم لم تعد مجرد مبنى قديم يفتقر للوسائل التعليمية، بل مؤسسة مجهزة تستقبل الطلاب ببيئة تعليمية ملائمة، مؤكدًا أن هذا التطور انعكس مباشرة على أداء الطلاب، وعلى رغبة الأسر في إعادة أبنائها إلى المقاعد الدراسية بعد سنوات من الانقطاع.
كما أسهمت هذه المشاريع في خلق وظائف جديدة للمعلمين والإداريين، وتفعيل أنشطة مدرسية وثقافية ورياضية لم تكن موجودة سابقًا، ويشير تربويون إلى أن ارتفاع أعداد الطلاب الملتحقين بالمدارس الجديدة يُعد مؤشرًا على عودة الثقة في التعليم العام، وعلى بداية استعادة المنطقة لجزء من دورها التنموي الغائب.
جذب رأس المال
الاستثمار.. بيئة جديدة
لم يعد المشهد الاقتصادي في المخا كما كان قبل سنوات، فمع التحسن الملحوظ في البنية التحتية والخدمات الأساسية، بدأت المدينة تستعيد مكانتها كواجهة اقتصادية صاعدة على البحر الأحمر، ما فتح الباب أمام موجة جديدة من الاستثمارات المحلية، حيث يشهد الزائر للمدينة ازدهارًا متسارعًا في الفنادق السياحية، والمطاعم، والمراكز التجارية، إلى جانب تزايد المشاريع والأنشطة المرتبطة بالبحر والميناء.
ويشير مستثمرون محليون إلى أن الحوافز لم تعد محصورة في تحسين الطرق فقط، بل تشمل أيضًا تحسنًا واضحًا في الوضع الأمني، واستقرارًا إداريًا يساعد أصحاب المشاريع على اتخاذ قرارات توسعية دون تردد، مؤكدين أن توفير الكهرباء والمياه بصورة أفضل شجعهم على افتتاح مشاريع جديدة أو توسيع مشاريع قائمة.
يقول غانم محمد، أحد التجار: "اليوم المخا أصبحت مقصدًا للتجار والمستثمرين، وهذا لم يكن ممكنًا قبل أعوام، فالبنية التحتية الجديدة شجعتنا على العمل بثقة أكبر، وفتحت لنا فرصًا كانت مغلقة في السابق".
المستشفيات الطبية
خدمات تستجيب للاحتياجات
لا يقتصر التطور على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل القطاع الصحي الذي شهد نقلة نوعية خلال السنوات الأخيرة، فقد افتُتحت عدة مستشفيات ومراكز طبية متطورة، بدعم سخي من الإمارات العربية المتحدة، إذ تقدم هذه المنشآت خدمات أساسية ومتقدمة، تشمل أقسام الطوارئ، ورعاية الأمومة والطفولة، ومعالجة الأمراض المزمنة، فضلًا عن توفير مختبرات وتحاليل حديثة لم تكن متاحة في المنطقة سابقًا.
ويؤكد العاملون في القطاع الصحي أن هذه النقلة ساهمت في تخفيف الضغط على مستشفيات عدن وتعز، إذ لم يعد السكان مضطرين إلى السفر لساعات لتلقي العلاج، فاليوم أصبحت المخا مركزًا صحيًا حيويًا يخدم المديريات المجاورة أيضًا.
جيل المستقبل
في موازاة هذا التحول في البنية التحتية والخدمات، يشهد الساحل الغربي تغيّرًا في تركيبة المجتمع ومزاجه العام، فبعد سنوات عانى فيها جيل كامل من محدودية فرص التعليم واضطرارهم للعمل اليدوي لكسب لقمة العيش، تبدو الصورة اليوم مختلفة، إذ يدرس آلاف الأطفال في مدارس تتوفر فيها وسائل تعليمية جديدة.
ويرى خبراء اجتماعيون أن هذا التحول سيغير طبيعة المجتمع خلال سنوات قليلة، فجيل المستقبل سيملك فرصًا أفضل للتعليم والتأهيل، والانخراط في سوق العمل، ما سيقلّل من فرص الفقر ويعزز الاستقرار المجتمعي، مشيرين إلى أن وعي الأسرة بأهمية التعليم يتزايد، وأن البيئة المحيطة أصبحت أكثر دعمًا للطلاب، مع توفر طرق مهيأة ووسائل نقل ومدارس قريبة من التجمعات السكانية.
المخا.. نموذج قابل للتكرار
مع هذه التحولات المتسارعة، تبدو المخا اليوم نموذجًا لما يمكن أن تفعله الإدارة المنظمة والرؤية بعيدة المدى حين تتوفر الإمكانات، فرغم استمرار الحرب في مناطق أخرى، أثبتت تجربة الساحل الغربي أن التنمية ضرورة، وأن تحسين الخدمات يمكن أن يسير بالتوازي مع مشروع التحرير وإعادة بناء الدولة.
وتفيد مؤشرات كثيرة إلى أن السنوات القادمة قد تكون نقطة تحول حقيقية، حيث تتجه المنطقة لتصبح مركزًا للتعليم والتجارة والخدمات الصحية، مع مشاريع توسعية في مجالات النقل، والموانئ، والمطار والمناطق الصناعية.
ويرى ناشطون أن مدينة المخا لا تستعيد مكانتها التاريخية فحسب، بل تقدم صورة عن "اليمن الممكن"؛ يمن قادر على أن ينهض حين تتوفر الإدارة والكفاءة والبيئة المناسبة، وإذا ما تم البناء على ما تحقق، فقد تكون المدينة بداية لنموذج يتكرر في مدن يمنية أخرى، في طريق طويل لكنه واعد نحو مستقبل أفضل.
