عُمان في قلب الدبلوماسية: قراءة جيوسياسية في تحركات المبعوث الأممي والتقاطع مع طهران

08:52 2025/11/24

يشكل تتابع اللقاءات التي احتضنتها مسقط خلال الأيام الماضية، بين المبعوث الأممي هانس غروندبرغ ووزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، ثم اجتماع البوسعيدي مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، مؤشرًا واضحًا على أن ملف اليمن دخل مرحلة حساسة يعاد فيها بناء التوازنات الإقليمية وتحديد خطوط النفوذ وحدود التسويات الممكنة، إذ لم تكن هذه اللقاءات عرضية أو بروتوكولية، بل جاءت في توقيت إقليمي شديد التعقيد، وفي إطار خارطة تفاوضية تتجاوز اليمن لتلامس دوائر أوسع تمتد إلى الأمن البحري في الخليج العربي والبحر الأحمر، وعلاقة اليمن ببنية الصراع الإيراني الخليجي، والدور العُماني المتجدد في هندسة التهدئة الإقليمية.
 
تاريخيًا، لعبت سلطنة عُمان دور الوسيط الهادئ في ملفات حساسة تشمل العلاقات الأمريكية الإيرانية، والملف النووي، وتبادلات رسائل غير مباشرة بين الرياض وطهران، وهي بذلك تمتلك شبكة علاقات تسمح لها باستضافة محادثات لا يمكن لغيرها أن يديرها، ومع تصاعد التوترات في البحر الأحمر، وسعي الأمم المتحدة لإنقاذ مسار السلام اليمني من الانهيار الكامل، بدا طبيعيًا أن يعود غروندبرغ إلى مسقط ليطلب دعمًا إقليميًا قادرًا على التأثير في الحسابات الحوثية، وهو ما يجعل اللقاء مع البوسعيدي خطوة مرتبطة بإعادة بناء توافق دولي إقليمي حول قاعدة جديدة لاستئناف العملية السياسية في اليمن.
 
وفي المقابل، يحمل اجتماع وزير الخارجية العُماني مع نظيره الإيراني دلالة أعمق من مجرد بحث العلاقات الثنائية، إذ إن طهران تمثل الطرف الأكثر تأثيرًا على الحركة السياسية والعسكرية لجماعة الحوثي، وأي تغيير في سلوك الجماعة يتطلب تفاهمًا إيرانيًا أوليًا، سواء كان تفاهمًا مباشراً أو عبر رسائل متبادلة، لذلك فإن لقاء مسقط بين البوسعيدي وعراقجي أعطى إشارة بأن إيران مستعدة للاستماع إلى الطرح الأممي، ليس بالضرورة للقبول به، ولكن لوضعه ضمن سياق التفاوض الأكبر الذي يجري بين طهران والعواصم الغربية والخليجية، خصوصًا مع عودة مسار الاتصالات حول الملف النووي وتخفيف التوترات البحرية.
 
وتظهر أهمية هذا التوقيت حين نلاحظ أن المبعوث الأممي يضغط من أجل إعادة إطلاق مسار سياسي شامل، في وقت تواجه فيه الأمم المتحدة أزمة غير مسبوقة بسبب استمرار احتجاز موظفين أمميين لدى الحوثيين، وهو ملف يمس مكانة الأمم المتحدة مباشرة، ويصبح أكثر حساسية حين تتم مناقشته مع دولة مؤثرة مثل إيران، إذ يشكل الإفراج عن المحتجزين اختبارًا لقدرة طهران على ترجمة وعودها إلى إجراءات ملموسة، كما يشكل اختبارًا لمدى استعداد الحوثيين للانخراط في عملية سياسية تتطلب تنازلات متبادلة ومرونة في الملفات الإنسانية والأمنية.
 
كما أن اختيار مسقط تحديدًا يعكس محاولة الأمم المتحدة خلق مسار موازٍ للمفاوضات التقليدية، بحيث تصبح عُمان حلقة الوصل التي تضمن عدم انقطاع الاتصال بين الأطراف المتعارضة، خصوصًا بعد تراجع خطوط التواصل المباشر بين الحوثيين والتحالف العربي، وتشتت المواقف داخل الساحة اليمنية، الأمر الذي يعطي لدور عمان قيمة مضاعفة، فهي ليست فقط وسيطًا ناعمًا، بل أصبحت مركز ثقل إقليمي لإدارة الملفات المتشابكة في اليمن والخليج، وهو ما يفسر تكرار زيارات غروندبرغ إلى مسقط، ومحاولة تأمين دعم سياسي إقليمي قبل الانتقال إلى أي خطوة تفاوضية رسمية.
 
وتكمن الأهمية الجيوسياسية لهذه اللقاءات في كونها تُعيد رسم خريطة التأثير الإقليمي في اليمن، إذ تسعى الأمم المتحدة إلى إعادة المسار إلى مربع التهدئة، بينما تتحرك إيران لحفظ نفوذها داخل اليمن ورسم حدود دورها في التسوية المحتملة، في حين تعمل عُمان على منع انزلاق المنطقة إلى تصعيد جديد قد يهدد أمنها البحري ومكانتها السياسية، وهذا التقاطع بين المصالح الثلاثة يعطي للمحادثات فرصة النجاح ولكنه يحمل أيضًا مخاطر التعثر، لأن أي تناقض بين أولويات الأطراف سيعيد المشهد إلى حالة الجمود السابقة.
 
ويضاف إلى ذلك أن خريطة الصراع الإقليمي تغيرت خلال العامين الأخيرين، إذ أصبحت مضائق الملاحة، من الخليج العربي إلى باب المندب والبحر الأحمر، مركز التوترات البحرية المرتبطة بالهجمات الحوثية، وهو ما يدفع القوى الدولية إلى البحث عن ترتيبات أمنية إقليمية، ويجعل أي اتفاق سياسي في اليمن جزءًا من منظومة أمنية أوسع، لا مجرد تسوية بين أطراف يمنية، وبالتالي فإن اللقاءات في مسقط لا تبحث مستقبل اليمن فقط، بل تبحث مستقبل الأمن البحري الإقليمي، بما يشمل مصالح عُمان وإيران ودول الخليج والولايات المتحدة.
 
ويبدو أن الأمم المتحدة تسعى، من خلال هذه الجولة، إلى بناء توافق إقليمي يمكّنها من إطلاق مسار سياسي واسع يشمل كل الأطراف، ويستند إلى ضمانات إقليمية، لأن أي اتفاق داخلي لا تحميه القوى المؤثرة في الإقليم سيتعرض للانهيار سريعًا، كما حدث في مسارات سابقة، ولذلك فإن لقاء غروندبرغ مع البوسعيدي، ثم اجتماع البوسعيدي مع عراقجي، يمثلان جزءًا من سلسلة خطوات تستهدف خلق منصة إقليمية قادرة على احتضان التسوية اليمنية وإعطائها غطاء سياسيًا واستراتيجيًا.
 
ومع أن ملامح النتائج لم تتضح بعد، إلا أن هذه التحركات تفتح الباب أمام ثلاثة احتمالات رئيسية، أولها قبول إيران بدعم مسار أممي مشروط يحفظ نفوذها داخل اليمن ويمنح الحوثيين دورًا سياسيًا واسعًا، وثانيها استمرار التعقيد مع قبول خطوات إنسانية محدودة دون تقدم سياسي، وثالثها دخول الملف في مرحلة مراوحة طويلة مرتبطة بمفاوضات طهران النووية والعلاقات الأميركية الإيرانية، وفي كل هذه السيناريوهات ستظل عُمان طرفًا مركزيًا في إدارة الاتصالات وضمان الحد الأدنى من التواصل بين جميع الأطراف.
 
وتبقى الحقيقة الجيوسياسية الأهم أن اليمن لن يخرج من حالة الانسداد السياسي إلا بتوافق إقليمي شامل يشمل إيران ودول الخليج، وهذا التوافق لا يمكن أن يتشكل خارج مسقط، لأنها الجهة الوحيدة التي تستطيع الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، ولذلك فإن اللقاءات الأخيرة ليست مجرد نشاط دبلوماسي عابر، بل هي حلقة في محاولة إعادة هندسة التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، ورسم ملامح المرحلة المقبلة من الصراع اليمني ومسارات حله.
 
أ.د.عبدالوهاب العوج أكاديمي ومحلل سياسي يمني